الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
.باب الفدية: عن عبد الله بن معقل قال: جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت في خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: «ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى»- أو «ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى- أتجد شاة؟» فقلت: لا, قال: «فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع».وفي رواية: «فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام».الكلام عليه من وجوه:أحدها: معقل والد عبد الله- هذا- بفتح الميم وإسكان العين المهملة وكسر القاف وعبد الله- هذا- هو ابن معقل بن مقرن- بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة المهملة- مزني كوفي يكنى أبا الوليد متفق عليه وقال أحمد بن عبد الله فيه: كوفي تابعي ثقة من خيار التابعين.وعجرة بضم العين المهملة وسكون الجيم وفتح الراء المهملة وكعب ولده من بني سالم بن عوف وقيل من بلي وقيل: هو كعب بن عجرة بن أمية بن عدي مات سنة اثنتين وخمسين بالمدينة وله خمس وسبعون سنة متفق عليه.الثاني: في الحديث دليل على جواز حلق الرأس لأذى القمل وقاسوا عليه ما في معناه من الضرر والمرض.الثالث: قوله نزلت في يعنى آية الفدية وقوله خاصة يريد اختصاص سبب النزول به فإن اللفظ عام في الآية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة: 196] وهذه صيغة عموم.الرابع: قوله عليه السلام: «ما كنت أرى» بضم الهمزة أي أظن وقوله عليه السلام: «بلغ بك ما أرى» بفتح الهمزة يعني أشاهد وهو من رؤية العين والجهد بفتح الجيم: هو المشقة وأما الجهد- بضم الجيم- فهو الطاقة ولا معنى لها هاهنا إلا أن تكون الصيغتان بمعنى واحد.الخامس: قوله: «أو أطعم ستة مساكين» تبيين لعدد المساكين الذين تصرف إليهم الصدقة المذكورة في الآية وليس في الآية ذكر عددهم وأبعد من قال من المتقدمين: إنه يطعم عشرة مساكين لمخالفة الحديث وكأنه قاسه علىكفارة اليمين.السادس: قوله: «لكل مسكين نصف صاع» بيان لمقدار الإطعام ونقل عن بعضهم: أن نصف الصاع لكل مسكين: إنما هو في الحنطة فأما التمر والشعير وغيرهما: فيجب لك مسكين صاع وعن أحمد رواية: أن لكل مسكين مد حنطة أو نصف صاع من غيرها وقد ورد في بعض الروايات تعيين نصف الصاع من تمر لكل مسكين.السابع: الفرق بفتح الراء وقد تسكن وهو ثلاثة آصع مفسر من الروايتين أعني هذه الرواية وهي تقسيم الفرق على ثلاثة آصع والرواية الأخرى: هو تعيين نصف الصاع من تمر لكل مسكين.الثامن: قوله: «أو تهدي شاة» هو النسك المجمل في الآية قال أصحاب الشافعي: هي الشاة التي تجزي في الأضحية.وقوله: «أو صم ثلاثة أيام» تعيين الصوم المجمل في الآية وأبعد من قال من المتقدمين: إن الصوم عشرة أيام لمخالفة هذا الحديث ولفظ الآية والحديث معا يقتضي التخيير بين هذه الخصال الثلاث- أعني الصيام والصدقة والنسك- لأن كلمة أو تقتضي التخيير.وقوله: في الرواية: «أتجد شاة؟» فقلت: لا, فأمره أن يصوم ثلاثة أيام ليس المراد به: أن الصوم لا يجزي إلا عند عدم الهي قيل: بل هو محمول على أنه سأل عن النسك؟ فإن وجده أخبره بأنه يخيره بينه وبين الصيام والإطعام وإن عدمه فهو مخير بين الصيام والإطعام..باب حرمة مكة: 1- عن أبي شريح- خويلد بن عمرو- الخزاعي العدوي رضي الله عنه: أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص- وهو يبعث البعوث إلى مكة-: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به, أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر: أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب» فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة.الخربة: بالخاء المعجمة والراء المهملة: هي الخيانة وقيل: البلية وقيل: التهمة وأصلها في سرقة الإبل قال الشاعر:الكلام عليه من وجوه:الأول: أبو شريح الخزاعي ويقال فيه: العدوي ويقال: الكعبي اسمه خويلد بن عمرو وقيل: هانئ بن عمرو أسلم قبل فتح مكة وتوفي بالمدينة سنة ثمان وستين.الثاني: قوله: (ائذن لي أيها الأمير في أن أحدثك) فيه حسن الأدب في المخاطبة للأكابر- لاسيما الملوك- لاسيما فيما يخالف مقصودهم لأن ذلك يكون أدعى للقبول لاسيما في حق من يعرف منه ارتكاب غرضه فإن الغلطة عليه قد تكون سببا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه.وقوله: (أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته أذناي ووعاه قلبي) تحقيق لما يريد أن يخبر به وقوله: (سمعته أذناي) نفي لوهم أن يكون رواه عن غيره وقوله: (ووعاه قلبي) تحقيق لفهمه والتثبت في تعقل معناه.الثالث: قوله: «فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما» يؤخذ منه أمران:أحدهما: تحريم القتال بمكة لأهل مكة وهو الذي يدل عليه سياق الحديث ولفظه وقد قال بذلك بعض الفقهاء قال القفال في شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص لا يجوز القتال بمكة قال: حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها وحكى الماوردي أيضا أن من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله إذا بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل قال وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على البغي إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها وقيل إن هذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الأم ونص عليه أيضا في آخر كتابه المسمى ب سير الواقدي وقيل إن الشافعي أجاب عن الأحاديث بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا لم يمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما إذا انحصر الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء والله أعلم.وأقول: هذا التأويل على خلاف الظاهر القوي الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي في قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك دما» وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين خصوصياته لإحلالها له ساعة من نهار وقال: (فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم) فأبان بهذا اللفظ أن المأذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن فيه لغيره والذي أذن للرسول فيه إنما هو مطلق القتال ولم يكن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم كما حمل عليه الحديث في هذا التأويل وأيضا فالحديث وسياقه يدل على أن هذا التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها وسفك الدم وذلك لا يختص بما يستأصل وأيضا فتخصيص الحديث بما يستأصل ليس لنا دليل على تعيين هذا الوجه بعينه لأن يحمل عليه الحديث فلو أن قاتلا أبدى معنى آخر وخص به الحديث لم يكن بأولى من هذا.والأمر الثاني: يستدل به أبو حنيفة في أن الملتجئ إلى الحرم لا يقتل به لقوله عليه السلام: «لا يحل لامرئ أن يسفك بها دما» وهذا عام تدخل فيه صورة النزاع قال: بل يلجأ إلى أن يخرج من الحرم فيقتل خارجه وذلك بالتضييق عليه.الرابع: العضد القطع عض: بفتح الضاد في الماضي يعض بكسر الضاد: يدل على تحريم قطع أشجار الحرم واتفقوا عليه فيما لا يستنبته الآدميون في العادة واختلف الفقهاء فيما يستنبته الآدميون والحديث عام في عض ما يسمى شجرا.الخامس: قد يتوهم أن قوله عليه السلام: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر» أنه يدل على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة والصحيح عند أكثر الأصوليين أنهم مخاطبون وقال بعضهم في الجواب عن هذا التوهم: لأن المؤمن هو الذي ينقاد لأحكامنا وينزجر عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه فجعل الكلام فيه وليس فيه أن غير المؤمن لا يكون مخاطبا بالفروع.وأقول: الذي أراه أن هذا الكلام من باب خطاب التهييج فإن مقتضاه أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه هذا هو المقتضى لذكر هذا الوصف ولو قيل: لا يحل لأحد مطلقا لم يحصل به الغرض وخطاب التهييج معلوم عند علماء البيان ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] إلى غير ذلك.السادس: في دليل على أن مكة فتحت عنوة وهو مذهب الأكثرين وقال الشافعي وغيره فتحت صلحا وقيل في تأويل الحديث أن القتال كان جائزا له صلى الله عليه وسلم في مكة فلو احتاج إليه لفعله ولكن ما احتاج إليه.وهذا التأويل يضعفه قوله عليه السلام: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم» فإنه يقتضي وجود قتال منه صلى الله عليه وسلم ظاهرا وأيضا السير التي دلت على وقوع القتال وقوله عليه السلام: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» إلى غيره من الأمان المعلق على أشياء مخصوصة تبعد هذا التأويل أيضا.السابع: قوله: «فليبلغ الشاهد الغائب» فيه تصريح بنقل العلم وإشاعة السنن والأحكام.وقول عمرو: «أنا أعلم منك بذلك يا أبا شريح» الخ هو كلامه ولم يسنده إلى رواية وقوله: «لا يعيذ عاصيا» أي لا يعصمه وقوله: «ولا فارا بخربة» قد فسرها المصنف ويقال فيها بضم الخاء وأصلها سرقة الإبل كما قال وتطلق على كل خيانة وفي صحيح البخاري أنها البالية وعن الخليل أنه قال: هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض وقيل هي العيب.2- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا», وقال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السماوات والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من النهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكة ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه», فقال العباس: يا رسول الله ألا الأذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال: «إلا الأذخر».القين: الحداد.قوله عليه السلام: «لا هجرة» نفي لوجوب الهجرة من مكة إلى المدينة فإن الهجرة تجب من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وقد صارت مكة دار إسلام بالفتح وإن لم يكن من هذه الجهة فيكون حكما ورد لرفع وجوب هجرة أخرى بغير هذا السبب ولا شك أنه تجب الهجرة اليوم من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لمن قدر على ذلك.وفي ضمن الحديث: الإخبار بأن مكة تصير دار إسلام أبدا.وقوله عليه السلام: «وإذا استنفرتم فانفروا» أي إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ولا شك أنه تتعين الإجابة والمبادرة إلى الجهاد في بعض الصور فأما إذا عين الإمام بعض الناس لفرض الكفاية فهل يتعين عليه؟ اختلفوا فيه ولعله يؤخذ من لفظ الحديث الوجوب في حق من عين للجهاد ويأخذ غيره بالقياس.وقوله عليه السلام: «ولكل جهاد ونية» يحتمل أن يريد به جهادا مع نية خالصة إذ غير الخالصة غير معتبرة فهي كالعدم في الاعتداد بها في صحة الأعمال ويحتمل أن يراد ولكن جهاد بالفعل أو نية الجهاد لمن يفعل كما قال عليه السلام: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق».وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض» تكلموا فيه مع قوله عليه السلام: «إن إبراهيم حرم مكة» فقيل بظاهر هذا وأن إبراهيم أظهر حرمتها بعدما نسيت والحرمة ثابتة من يوم خلق الله السماوات والأرض وقيل إن التحريم في زمن إبراهيم وحرمتها يوم خلق الله السماوات والأرض كتابتها في اللوح المحفوظ حراما وأما الظهور للناس ففي زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.وقوله: «فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال» يدل على أمرين:أحدهما: أن هذا التحريم يتناول القتال.والثاني: أن هذا الحكم ثابت لا ينسخ وقد تقدم ما في تحريم القتال أو إباحته.وقوله: «لا يعضد شوكته» دليل على أن قطع الشوك ممتنع كغيره وذهب إليه بعض مصنفي الشافعية والحديث معه وأباحه غيره من حيث إن الشوك مؤذ.وقوله: «ولا ينفر صيده» أي يزعج من مكانه وفيه دليل على طريق فحوى الخطاب أن قتله محرم فإنه إذا حرم تنفيره بأن يزعج من مكانه فقتله أولى.وقوله: «ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها» اللقطة بإسكان القاف وقد يقال بفتحها الشيء الملتقط وذهب الشافعي إلى أن لقطة الحرم لا تؤخذ للتملك وإنما تؤخذ لتعرف لا غير وذهب مالك إلى أنها كغيرها في التعريف والتملك ويستدل للشافعي بهذا الحديث.والخلى بفتح الخاء والقصر: الحشيش إذا كان رطبا واختلاؤه قطعه وقد تقدم والإذخر نبت معروف طيب الرائحة وقوله: «فإنه لقينهم» القين: الحداد لأنه يحتاج إليه في عمل النار وبيوتهم تحتاج إليه في التسقيف.وقوله عليه السلام: «إلا الإذخر» على الفور تتعلق به من يروي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم أو تفويض الحكم إليه من أهل الأصول وقيل: يجوز أن يكون يوحى إليه في زمن يسير فإن الوحي إلقاء في خفية وقد تظهر أماراته وقد لا تظهر.
|