فصل: التحليل اللفظي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها}.
التفسير:
جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك، الذي كان المدخل إليه، هو هذا الحديث الذي شغل السيدة عائشة عن أن تكون في الركب، وقد لقيها على الطريق صفوان بن المعطل، فحملها على بعيره، وألحقها بكرب الرسول.
فكان المنافقين، ومن في قلوبهم مرض أن ينظروا إلى هذه الحادثة بنفوس مريضة، وأهواء متسلطة، وأن يعموا عن هذا الجوهر الكريم المصفّى الذي ينظرون إليه.. سواء في ذلك أم المؤمنين، أو الصحابىّ الذي كان في خدمتها.
نقول- جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك لتقيم المسلمين على أدب خاص، يتصل بالبيوت وحرمتها، حتى لا تكون مظنّة لريبة، أو موضعا لتهمة.. ذلك والنفوس- إذ تستقبل هذه الآيات- مهيأة لقبول كل ما يدفع التهم، وينفى الرّيب، بعد تلك التجربة القاسية التي عاشها النبىّ، وزوجه، وصديقه الصديق، وصحابته، وصالحو المؤمنين.
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فهذا أول مادة في دستور هذا الأدب الربانىّ، في تزاور المسلمين، وتواصلهم بلقاء بعضهم بعضا في البيوت.. وهو ألّا يدخل أحد بيتا غير بيته حتى يستأنس، ويسلم على أهله.
والاستئناس، هو طلب الأنس، وإزالة الوحشة، وذلك باستئذان أهل البيت، ولقاء من يلقاه منهم على باب الدار، فإذا لقيه أحد سلم عليه.. فإن أذن له بالدخول دخل، وإن لم يأذن له رجع.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
وفى قوله تعالى: {فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي لا دخول أبدا إلا بعد إذن.. فإن لم يكن أحد في البيت فلا دخول أبدا.. وإن كان في البيت أحد، فلا دخول إلا بعد التسليم، والإذن.
وفى قوله تعالى: {هُوَ أَزْكى لَكُمْ}أي هذا الموقف هو أزكى لكم، وهو أن لا دخول أبدا إذا لم يكن أحد، وأن لا دخول إذا كان أحد إلا بعد تسليم وإذن.
والضمير {هو} يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى: {فَارْجِعُوا} أي فالرجوع أزكى لكم، فإن الدخول بغير إذن هو تطفّل، وعدوان على حرمات غيركم، فقد يكون عدم الإذن لكم راجعا إلى أن الذي تريدون لقاءه لا يريد لقاءكم، أو قد يكون لأنه في أمر لا يحبّ أن تطلعوا عليه منه.. أو نحو هذا.
فالبيوت ستر لأهلها، ودخولها بغير إذن ابتداء، هو أشبه باللصوصية، أما إن كان الدخول بعد طلبكم الإذن، ثم لم يؤذن لكم فهو اعتداء صارخ، فوق أنه تطفّل وصغار!- وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحذير لمن تحدثهم أنفسهم بانتهاك حرمات اللّه، أو لا يأتمرون بهذا الأمر، الذي أمرهم اللّه به، وأدّبهم بأدبه.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ}.
هذا استثناء من الأمر العام بالاستئذان قبل دخول البيوت، وبهذا الاستثناء يفهم أن المراد بهذه البيوت هي البيوت المسكونة، وهى التي يكون الحرج واقعا على من يدخلها بغير إذن.
أما البيوت غير المسكونة، كالأمكنة العامة، مثل النّزل، والمطاعم، ونحوها فلا حرج في دخولها بغير إذن.. إذ كانت طبيعتها لا تقتضى إذنا، بل إنها تستدعى الواردين إليها، وأبوابها مفتوحة لهم دائما.
والمراد بالمتاع في قوله تعالى: {فِيها مَتاعٌ لَكُمْ} هو المنفعة والحاجة، وليس المراد أن يكون لهم فيها أمتعة.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ} إشارة إلى أن هذا الأدب المطلوب رعايته في دخول البيوت المسكونة- هو مما يقضى به الظاهر، وليس امتثاله، والدخول بعد الاستئذان، مما يحلّ المؤمن من غضّ البصر، ورعاية الحرمات، وحفظ أسرار البيوت، وما يطلع عليه الذي يدخلها من شئونها وما يجرى فيها- فإن لهذا كلّه حسابه عند اللّه، الذي يعلم ما نخفى وما نعلن، وهو يحاسب على كل ما نقول أو نعمل في علن وسرّ.. اهـ.

.قال الصابوني:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.
آداب الاستئذان والزيارة:

.التحليل اللفظي:

{تَسْتَأْنِسُواْ}: أي تستأذنوا، قال الزجاج: {تستأنسوا} في اللغة بمعنى تستأذنوا وكذلك هو في التفسير كما نقل عن ابن عباس.
وأصل الاستئناس: طلب الأنس بالشيء وهو سكون النفس، واطمئنان القلب وزوال الوحشة قال الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ** وصوّت إنسان فكدت أطير

وقال بعضهم: الاستئناس هو الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرًا مكشوفًا. ومنه قوله تعالى: {إني آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10] أي أبصرت نارًا. ومعنى الآية: حتى تستعلموا أيريد أهلها أن تدخلوا أم لا؟
قال الزمخشري: هو من الاستئناس ضد الاستيحاش. لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش فإذا أذن له يستأنس.
قال الطبري: والصواب عندي أن الاستئناس استفعال من الأنس وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، ويؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم ويأنسوا إلى استئذانه.
{على أَهْلِهَا}: المراد بالأهل السكان الذين يقيمون في الدار سواء كانت سكناهم بالملك، أو بالإجارة، وبالإعارة، وقد دل على هذا معنى قوله تعالى: {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} قال الألوسي: والمراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها. لأنه كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فلا حاجة إلى القول بأن ذلك خارج مخرج العادة.
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ}: الإشارة راجعة إلى الاستئذان والتسليم أي دخولكم مع الاستئذان والسلام خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة.
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: أي كي تتعظوا وتتذكروا وتعملوا بموجب تلك الآداب الرفيعة وهي مضارع حذف منه إحدى التاءين.
{أزكى لَكُمْ}: أي أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والعناد والوقوف على الأبواب فالرجوع في مثل هذه الحال أشرف وأطهر للإنسان العاقل.
{جُنَاحٌ}: أي إثم وحرج قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5].
{غَيْرَ مَسْكُونَةٍ}: المراد البيوت العامرة التي تقصد لمنافع عامة غير السكنى كالحمامات والحوانيت والبيوت التي لا تخص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات فهذه وأمثالها لا حرج في دخولها بغير إذن.
{متاع لَّكُمْ}: المتاع في اللغة يطلق على المنفعة أي فيها منفعة لكم كالاستظلال من الحر وحفظ الرحال والسّلع والاستحمام وغيره. ويطلق ويراد منه الغرض والحاجة أي فيها لكم غرض من الأغراض، أو حاجة من الحاجات.

.المعنى الإجمالي:

يؤدب المولى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالآداب الجليلة، ويدعوهم إلى التخلق بكل أدب رفيع فيامرهم بالاستئذان عند إرادة الدخول إلى بيوت الناس، وبالتلطف عند طلب الاستئذان، وبالسلام على أهل المنزل لأن ذلك مما يدعو إلى المحبة والوئام، وينهاهم عن الدخول بغير إذن لئلا تقع أعينهم على ما يسوءهم فيطلعوا على عورات الناس أو تقع على مكروه لا يحبه أهل المنزل، فإن في الاستئذان والسلام ما يدفع خطر الريبة أو القصد السيِّئ ويجعل الزائر محترمًا مكرمًا مستأنسًا به.
وإذا لم يؤذن له فعليه بالرجوع فذلك خير له من الوقوف على الأبواب أو الإثقال على أهل المنزل فقد يكون أهل البيت في شغل شاغل عن استقبال أحد من الزائرين.
وإذا لم يكن في البيوت أحد فلا يجوز الدخول أو الاقتحام لأن البيوت حرمة، ولا يحل دخولها إلا بإذن أربابها، وربما كان أهل البيت لا يرغبون أن يطلع أحد على ما عندهم في المنزل من مال أو متاع وربما أدى الدخول إلى فقدان شيء أو ضياعة ووقعت التهمة على ذلك الإنسان.
أما البيوت التي ليس بها ساكن، أو التي فيها للإنسان منفعة أو مصلحة فلا مانع من دخولها بغير إذن. ذلك هو أدب الإسلام وتربيته الحميدة الرشيدة التي أدّب بها المؤمنين.

.وجه الارتباط بين الآيات الكريمة:

الآيات التي تقدمت في صدر السورة كانت في بيان حكم الزنى وبيان ضرره وخطره. وبيان أنه قبيح ومحرم وأنَّ مرتكبه يستحق العذاب والنكال.
ولما كان الزنى طريقُه النظر، والخلوة، والاطلاع على العورات... وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مَظِنَّة حصول ذلك كله، أرشد الله عز وجل عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت، حتى لا يقعوا في ذلك الشر الوبيل، والخطر الجسيم، الذي يقضي على أواصر المجتمع، ويدمر الأسر، ويشيع الفحشاء بين الناس.
وقد تحدثت الآيات السابقة عن حادثة الإفك التي اتهمت فيها أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها تلك المرأة العفيفة الطاهرة التي برّأها القرآن مما نسبها إليه أهل النفاق والبهتان، ولم يكن لأصحاب الإفك متكأ في رميها إلا أنها بقيت مع صفوان فيما يشبه الخلوة، لذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتى لا يؤدي ذلك إلى القدح في أعراض البراء الأطهار، ويكون المجتمع في منجاة عن ذلك الشر الخطير.

.سبب النزول:

أ- روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولا والد ولا ولد فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع؟ فنزلت الآية الكريمة {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآية.
ب- وروى ابن حاتم عن مقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ} إلخ قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله: فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة، والمدينة، والشام، وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلِّمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} الآية.