الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقرأ أبو رجاء، والحسن، وأبو الأشهب، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة: {فكهين} بغير ألف، والمعنى على القراءة الأولى: متنعمين طيبة أنفسهم، وعلى القراءة الثانية: أشرين بطرين.قال الجوهري: فكه الرجل بالكسر، فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحًا، والفكه أيضًا: الأشر البطر.قال: {وفاكهين} أي: ناعمين.وقال الثعلبي: هما لغتان كالحاذر، والحذر، والفاره والفره.وقيل: إن الفاكهة هو: المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة.{كَذَلِكَ وأورثناها قَوْمًا ءآخرين} الكاف في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف.قال الزجاج: أي: الأمر كذلك، ويجوز أن تكون في محل نصب، والإشارة إلى مصدر فعل يدلّ عليه تركوا، أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وقيل: مثل ذلك الآخراج أخرجناهم منها، وقيل: مثل ذلك الأهلاك أهلكناهم.فعلى الوجه الأول يكون قوله: {وأورثناها} معطوفًا على {تَرَكُواْ}، وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوفًا على الفعل المقدّر.والمراد بالقوم الآخرين: بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه ملكهم أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين، أي: أنها وصلت إليهم كما يصل الميراث إلى الوارث، ومثل هذا قوله: {وَأو رثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها} [الأعراف: 137] {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} هذا بيان لعدم الاكتراث بهلاكهم.قال المفسرون: أي: إنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملًا صالحًا تبكي عليهم به، ولم يصعد لهم إلى السماء عمل طيب يبكي عليهم به، والمعنى: أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء، ولا من أهل الأرض، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء، والأرض، أي: عمت مصيبته، ومن ذلك قول جرير:
ومنه قول النابغة: وقال الحسن: في الكلام مضاف محذوف، أي: ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس.وقال مجاهد: إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحًا، وقيل: إنه يبكي على المؤمن مواضع صلاته، ومصاعد عمله {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} أي: ممهلين إلى وقت آخر بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم، وشدّة عنادهم {ولقد نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل مِنَ العذاب المهين} أي: خلصناهم بإهلاك عدوّهم مما كانوا فيه من الاستعباد، وقتل الأبناء واستحياء النساء، وتكليفهم للأعمال الشاقة، وقوله: {مِن فِرْعَوْنَ} بدل من العذاب إما على حذف مضاف، أي: من عذاب فرعون، وإما على المبالغة كأنه نفس العذاب، فأبدل منه، أو على أنه حال من العذاب تقديره: صادرًا من فرعون، وقرأ ابن عباس: {من فرعون}؟ بفتح الميم على الاستفهام التحقيري كما يقال لمن افتخر بحسبه، أونسبه: من أنت؟ ثم بيّن سبحانه حاله، فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ المسرفين} أي: عاليًا في التكبر والتجبر من المسرفين في الكفر بالله، وارتكاب معاصيه كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ في الأرض} [القصص: 4].ولما بيّن سبحانه كيفية دفعه للضر عن بني إسرائيل بيّن ما أكرمهم به، فقال: {ولقد اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} أي: اختارهم الله على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك، وليس المراد: أنه اختارهم على جميع العالمين بدليل قوله في هذه الأمة:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [ال عمران: 110] وقيل: على كل العالمين لكثرة الأنبياء فيهم، ومحل {على علم} النصب على الحال من فاعل {اخترناهم} أي: حال كون اختيارنا لهم على علم منا، و{على العالمين} متعلق باخترناهم {وءآتيناهم مِنَ الآيات} أي: معجزات موسى {مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ} أي: اختبار ظاهر، وامتحان واضح لننظر كيف يعملون.وقال قتادة: الآيات إنجاؤهم من الغرق، وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المنّ والسلوى لهم.وقال ابن زيد: الآيات هي: الشرّ الذي كفهم عنه، والخير الذي أمرهم به.وقال الحسن، وقتادة: البلاء المبين: النعمة الظاهرة كما في قوله: {و ليُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} [الأنفال: 17]، ومنه قول زهير: والإشارة بقوله: {إِنَّ هَؤُلاء} إلى كفار قريش، لأن الكلام فيهم، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر {لَيَقولونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} أي: ما هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها في الدنيا، ولا حياة بعدها، ولا بعث، وهو معنى قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي: بمبعوثين، وليس في الكلام قصد إلى إثبات موتة أخرى، بل المراد: ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية، قال الرازي: المعنى: أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى، ثم أوردوا على من وعدهم بالبعث ما ظنوه دليلًا، وهو: حجة داحضة، فقالوا: {فَأْتُواْ بِآبائنا} أي: ارجعوهم بعد موتهم إلى الدنيا {إِن كُنتُمْ صادقين} فيما تقولونه، وتختبرونا به من البعث.ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} أي: أهم خير في القوّة والمنعة، أم قوم تبع الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه، وغلب أهلها، وقهرهم، وفيه وعيد شديد.وقيل: المراد بقوم تبع: جميع أتباعه لا واحد بعينه.وقال الفراء: الخطاب في قوله: {فَأْتُواْ بِآبائنا} لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده كقوله: {رَبّ ارجعون} [المؤمنون: 99]، والأولى أنه خطاب له، ولاتباعه من المسلمين والمراد بـ: {الذين مِن قَبْلِهِمْ} عاد، وثمود، ونحوهم، وقوله: {أهلكناهم} جملة مستأنفة لبيان حالهم، وعاقبة أمرهم، وجملة {إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} تعليل لأهلاكهم، والمعنى: أن الله سبحانه قد أهلك هؤلاء بسبب كونهم مجرمين، فإهلاكه لمن هو دونهم بسبب كونه مجرمًا مع ضعفه، وقصور قدرته بالأولى.وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ولقد فَتَنَّا} قال: ابتلينا {قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رسول كَرِيمٌ} قال: هو: موسى {أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله} أرسلوا معي بني إسرائيل {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} قال: لا تعثوا {إني آتيكم بِسُلْطَانٍ مُّبِين} قال: بعذر مبين {وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} قال: بالحجارة {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون} أي: خلوا سبيلي.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في قوله: {أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله} قال: يقول: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق، وفي قوله: {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} قال: لا تفتروا وفي قوله: {أَن تَرْجُمُونِ} قال: تشتمون.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه أيضًا في قوله: {رَهوا} قال: سمتا.وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا {رَهوا} قال: كهيئة، وامضه.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضًا: أنه سأل كعبًا عن قوله: {واترك البحر رَهوا} قال: طريقًا.وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس أيضًا قال: الرّهو: أن يترك كما كان.وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أيضًا في قوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} قال: المنابر.وأخرج ابن مردويه، عن جابر مثله.وأخرج الترمذي، وابن أبي الدنيا، وأبويعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبونعيم في الحلية، والخطيب عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد إلاّ وله بابان: باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات، فقداه، وبكيا عليه»، وتلا هذه الآية {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملًا صالحًا تبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام صالح، فتفقدهم، فتبكي عليهم.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب نحوه من قول ابن عباس.وأخرج أبو الشيخ عنه قال: يقال: الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحًا.وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن جرير، عن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، ألا لا غربة على مؤمن، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه، إلا بكت عليه السماء والأرض»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} ثم قال: «إنهما لا يبكيان على كافر» وأخرج ابن المبارك، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر من طريق المسيب بن رافع، عن عليّ بن أبي طالب قال: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء، ثم تلا الآية.وأخرج ابن المبارك، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: إن الأرض لتبكي على ابن ادم أربعين صباحًا، ثم قرأ الآية.وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا تبعًا فإنه قد أسلم» وأخرجه أحمد، والطبراني، وابن ماجه، وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله، وروي نحوهذا عن غيرهما من الصحابة، والتابعين. اهـ.
|