الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال أبو حنيفة: لا يصح قذفه ولا لعانه ولما كانت معصية الزنا كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيرًا ما يتسير بها فقلما يطلع أحد عليها، شدد الله تعالى على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة بعباده وسترًا لهم والمعنى {ثم لم يأتوا} الحكام والجمهور على إضافة {أربعة} إلى {شهداء}.وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم {بأربعة} بالتنوين وهي قراءة فصيحة، لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة، ولذلك رجح ابن جني هذه القراءة على قراءة الجمهور من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك، لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء، ومن ذلك شهيد ألا ترى إلى قوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} وقوله: {واستشهدوا شهيدين} وكذلك: عبد فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والاتباع، وكذلك ثلاثة أعبد.وقال ابن عطية: وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى.وليس كما ذكر إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو: ثلاثة رجال، وأما في الصفة فلا بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقية، ويضعف قول من قال أنه حال أو تمييز، وهذه الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة، والظاهر أنه لا يشترط شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتى بهم متفرقين صحت شهادتهم.وقال أبو حنيفة: شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين، فلو جاؤوا متفرقين كانوا قذفه.والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ولقوله: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وتحد المرأة، وروي ذلك عن الحسن والشعبي.وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس.{فاجلدوهم} أمر للإمام ونوابه بالجلد، والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى.وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلاّ بمطالبته.وقال مالك كذلك إلاّ أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف، والظاهر أن العبد القاذف حرًّا إذا لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين لاندراجه في عموم {والذين يرمون} وبه قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي.وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي: يجلد أربعين وهو قول عليّ وفعل أبي بكر وعمر وعليّ ومن بعدهم من الخلفاء قاله عبد الله بن ربيعة، ولو قذف واحد جماعة بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد حد حدًّا واحدًا وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والليث.وقال عثمان البتي والشافعي لكل واحد حد.وقال الشعبي وابن أبي ليلى: إن كان بلفظ واحد نحو يا زناة فحدوا حد، أو قال: لكل واحد يا زاني فلكل إنسان حد، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلاّ القاذف ولم يأت جلد الشاهد إذا لم يستوف عدد الشهود، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه عمر مجرى القاذف.وجلد أبا بكرة وأخاه نافعًا وشبل بن معبد البجلي لتوقف الرابع وهو زيادة في الشهادة فلم يؤدها كاملة، ولو أتى بأربعة شهداء فساق.فقال زفر: يدرأ الحد عن القاذف والشهود.وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود.وقال مالك وعبيد الله بن الحسن: يحد الشهود والقاذف.{ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبدًا وإن أكذب نفسه وتاب، وهو نهي جاء بعد أمر، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته وبه قال شريح القاضي والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح: لا تقبل شهادة المحدود في القذف وإن تاب، وتقبل شهادته في غير المقذوف إذا تاب.وقال مالك: تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري، وقال: لا تقبل شهادة محدود في الإسلام يعني مطلقًا، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف وهو قول الشافعي وكذا فعل عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات.{وأولئك هم الفاسقون} الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز الذين يرمون، كأنه إخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبدًا.{إلاّ الذين تابوا} هذا الاستثناء يعقب جملًا ثلاثة، جملة الأمر بالجلد وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف، وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبدًا وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي، وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة وهي الحكم بفسقهم والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصًا في الجملة الأخيرة، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة وهو الذي نختاره، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل.وقال الزمخشري: وجعل يعني الشافعي الاستثناء متعلقًا بالجملة الثانية وحق المستثنى عنده أن يكون مجرور بدلًا من {هم} في {لهم} وحقه عند أبي حنيفة النصب لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط يعني الموصول المضمن معنى الشرط كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسِّقوه أي اجمعوا له الحد والرد والفسق.{إلاّ الذين تابوا} عن القذف {وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} فينقلبون غير محدودين ولا مردودين ولا مفسقين انتهى.وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلاّ عند الحاجة. اهـ.
والمراد الرمي بالزنا كما يدل عليه إيراد ذلك عقيب الزواني مع جعل المفعول {المحصنات} الدال على النزاهة عن الزنا وهذا كالصريح في ذلك، وربما يدعى أن اشتراط أربعة من الشهود يشهدون بتحقق ما رمي به كما يدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} قرينة على المراد بناء على العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا، والظاهر أن المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رامي المحصن بدلالة النص للقطع بإلغاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد، وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر، وتخصيص الذكور في جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة، وقيل المراد الفروج المحصنات وفيه أن إسناد الرمي يأباه مع ما فيه من التوصيف بالمحصنات من مخالفة الظاهر.وقال ابن حزم وحكاه الزهراوي: المراد الأنفس المحصنات؛ واستدل له أبو حيان بقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء} [النساء: 24] فإنه لولا أن المحصنات صالح للعموم لم يقيد.
|