الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ووجه النصب إضمار فعل قدره بعضهم اتلوا سورة أو نحوه، وجعله بعضهم أنزلنا {سورة أنزلناها} وقال الفراء هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه، وقرأ جمهور الناس {وفرضناها} بتخفيف الراء، ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وجوهه إذ هو مشبه بالفرض في الأجرام، وقرأ مجاهد وغيره وأبو عمرو وابن كثير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود {وفرّضناها} بشد الراء ومعناه جعلناها فرائض فرائض، فمن حيث تردد ذلك ضعّف الفعل للمبالغة والتكثير، وقرأ الأعمش {وفرضناها لكم} وحكى الزهراوي عن بعض العلماء أنه قال كل ما السورة من أمر ونهي فرض لا حض بهذه اللفظة، والآيات البينات أمثالها ومواعظها وأحكامها، وقال الزهراوي المعنى ليس فيها مشكل تأويلها موافق لظاهرها.قال القاضي أبو محمد: وهذا تحكم، وقوله: {لعلكم} أي على توقع البشر ورجائهم، وقرأ الجمهور الناس {الزانيةُ} بالرفع، وقرأ عيسى الثقفي {الزانيةَ} بالنصب وهو أوجه عن سيبويه لأنه عنده كقولك زيدًا أضرب، ووجه الرفع عنده خبر ابتداء تقديره فيما يتلى عليكم {الزانية والزاني} وأجمع الناس على الرفع، وإن كان القياس عند سيبويه النصب، وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه والخبر في قوله: {فاجلدوا} لأن المعنى {الزانية والزاني} مجلودان بحكم الله تعالى وهذا قول جيد وهو قول أكثر النحاة، وإن شئت قدرت الخبر ينبغي أن يجلدا، وقرأ ابن مسعود {والزان} بغير ياء، وقدمت {الزانية} في اللفظ من حيث كان في ذلك الزمن زنى النساء أفشى وكان لأمراء العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك وإذا العار بالنساء ألحق إذ موضعهن الحجبة والصيانة، فقدم ذكرهن تغليظًا واهتمامًا، والألف واللام في قوله: {الزانية والزاني} للجنس وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة وهذه الآية باتفاق ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء، وجماعة العلماء على عموم هذه الآية وأن حكم المحصنين منسوخ منها، واختلفوا في الناسخ فقالت فرقة الناسخ السنة المتواترة في الرجم، وقالت فرقة بل القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي حكمه وهو الذي قرأه عمر في المنبر بمحضر الصحابة: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» وقال إنا قرأناه في كتاب الله، واتفق الجميع على أن لفظه رفع وبقي حكمه، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه ليس في هذه الآية نسخ بل سنة الرجم جاءت بزيادة، فالمحصن، على رأي هذه الفرقة يجلد ثم يرجم، وهو قول علي بن أبي طالب وفعله بشراحة ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ويرد عليهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث يرجم ولم يجلد، وبه قال جمهور الأمة إذ فعله كقوله رفع الجلد عن المحصن وقال ابن سلام وغيره هذه الآية خاصة في البكرين.قال الفقيه الإمام القاضي: لإنه لم يبق من هذا حكمه إلا البكران واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وبقوله: «على ابنك جلد مائة»، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج الإماء والعبيد وغيرهم منها، وقد تقدم بسط كثير من هذه المعاني في سورة النساء، والجلد يكون والمجلود قاعد، عند مالك ولا يجزىء عنده إلا في الظهر، وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف وهو قول علي بن أبي طالب ويفرق الضرب على كل الأعضاء، وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل، ويترجح قول مالك رحمه الله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة أو حد في ظهرك»، وقول عمر: أو لأوجعن مثناك، ويعرى الرجل عند مالك والنخعي وأبي عبيدة بن الجراح وابن مسعود وعمر بن عبدالعزيز والحسن والشعبي وغيرهم يرون أن يضرب على قميص وهو قول عثمان بن مسعود أيضًا، وأما المرأة فتستر قولًا واحدًا، وقرأ الجمهور {رأْفة} همزة ساكنة على وزن فعلة، وقرأ ابن كثير {رأَفة} على وزن فعَله بفتح العين، وقرأ عاصم أيضًا {رآفة} على وزن فعالة كسآمة وكآبة، وهذه مصادر أشهرها الأولى من رأف إذا أرق ورحم، وقرأ الجمهور {تأخذكم} بالتاء من فوق، وقرأ أبو عبد الرحمن {يأخذكم} بالياء من تحت واختلف الناس في الرأفة المنهي عنها فيم هي فقال أبو مجلز ولاحق بن حميد ومجاهد وعكرمة وعطاء هي في إسقاط الحد أي أقيموه، ولابد وهذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما ومن رأيهم أن الضرب في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد، وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما الرأفة المنهي عنها في تخفيف الضرب عن الزناة، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الخمر والفرية، ويشتد ضرب الزنا، وقال سليمان بي يسار نهي عن الرأفة في الوجهين، وقال أبو مجلز إنا لنرجم المحدود ولكن لا نسقط الحد.قال الفقيه الإمام القاضي: وقول النبي عليه السلام في السوط دون هذا، ضرب من الرأفة وقال عمر اضرب ولا تبدين إبطك، واتفق الناس على أن الضرب سوط بين سوطين، وقال الزهري ضرب الزنا والفرية مشدد لأَنهما بمعنى واحد وضرب الخمر مخفف، وقوله: {في دين الله} بمعنى في الإخلال بدين الله أَي بشرعه، ويحتمل أن يكون الدين هنا بمعنى الحكم، ثم قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله: {إن كنتم تؤمنون بالله} وهذا كما تقول لرجل تحضه إن كنت رجلًا فافعل كذا أي هذه أفعال الرجال وقوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} المقصد بالآية الإغلاظ على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، فلا خلاف أن الطائفة كلما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر، واختلف الناس في أَقل ما يجزىء فقال الحسن بن أبي الحسن لابد من حضور عشرة رأى أن هذا العدد عقد خارج عن الآحاد وهي أقل الكثرة.وقال ابن زيد وغيره ولابد من حضور أربعة، ورأوا أن شهادة الزنا كذلك وأن هذا باب منه، وقال الزهري الطائفة ثلاثة فصاعدًا، وقال عطاء وعكرمة لابد من اثنين وهذا مشهور قول مالك فرآها موضع شهادة، وقال مجاهد: يجزىء الواحد ويسمى طائفة إلى الألف، وقاله ابن عباس ونزعا بقوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} [التوبة: 122]، وقوله: {وإن طائفتان} [الحجرات: 9] ونزلت في تقاتل رجلين، واختلف العلماء في التغريب، وقد غرب الصديق إلى فدك وهو رأي عمر وعثمان وعلي وأبي ذر وابن مسعود وأَبي بن كعب ولكن عمر بعد نفى رجلًا فلحق بالروم فقال لا أنفي أحدًا بعدها، وفيه عن مالك قولان، ولا يرى تغريب النساء والعبيد واحتج بقوله عليه السلام «لا تسافر المرأة مسيرة يوم إلا مع ذي محرم»، وممن أبى التغريب جملة أصحاب الرأي، وقال الشافعي ينفى البكر رجلًا كان أو امرأة ونفى علي امرأة إلى البصرة. اهـ.
|