الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال القاضي: ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم، وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميمًا فكتب إليه عمر يعنفه، وتلا عليه هذه الآية، وقيل لعمر: إن هاهنا رجلًا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: إذًا أتخذ بطانة من دون المؤمنين، وما في قوله، {ما عنتّم} مصدرية، فالمعنى: {ودوا} عنتكم، والعنت: المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت: أي شاقة، وقوله تعالى: {ذلك لمن خشي العنت} [النساء: 35] معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي: معناه {ودوا} ما ضللتم، وقال ابن جريج: المعنى {ودوا} أن تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي، وقوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم} يعني بالأقوال، فهم فوق المتستر الذي تبدوا البغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه، معناه: أن يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس، والنهي في أن يأخذ أحد عرض أخيه همسًا راتب، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط وقوله: {وما تخفي صدورهم أكبر} إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: قد بدا البغضاء بتذكير الفعل، لما كانت {البغضاء} بمعنى البغض، ثم قال تعالى للمؤمنين، {قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} تحذيرًا وتنبيهًا، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول: إن كنت رجلًا فافعل كذا وكذا. اهـ.
.من فوائد الفخر: قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} نكرة في سياق النفي فيفيد العموم. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}: .قال ابن عاشور: قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} استئناف ابتدائي، قصد منه المقابلة بين خُلق الفريقين، فالمؤمنون يحبّون أهل الكتاب، وأهل الكتاب يبغضونهم، وكلّ إناء بما فيه يرشح، والشأن أنّ المحبَّة تجلب المحبَّة إلاّ إذا اختلفت المقاصد والأخلاق. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ} يعني المنافقين؛ دليله قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا}؛ قاله أبو العالية ومقاتل.والمحبة هنا بمعنى المصافاة، أي أنتم أيها المسلمون تُصافونهم ولا يُصافونكم لنِفاقهم.وقيل: المعنى تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر.وقيل: المراد اليهود؛ قاله الأكثر. اهـ..قال الفخر: إنه تعالى ذكر في هذه الآية أمورًا ثلاثة، كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول: قوله: {تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} وفيه وجوه:أحدها: قال المفضل {تُحِبُّونَهُمْ} تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر، ولا شك أنه يوجب الهلاك.الثاني: {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بسبب كونكم مسلمين الثالث: {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم.الرابع: قال أبو بكر الأصم {تُحِبُّونَهُمْ} بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر.الخامس: {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض.السادس: {تُحِبُّونَهُمْ} أي تخالطونهم، وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي لا يفعلون مثل ذلك بكم.واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين، فالكل داخل تحت الآية، ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعيًا من حيث الطبع، ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين. اهـ..قال الألوسي: والمراد بمحبة المؤمنين لهم المحبة العادية الناشئة من نحو الإحسان والصداقة، ومثلها وإن كان غريبًا يلام عليه إذا وقع من المؤمنين في حق أعداء الدين الذين يتربصون بهم ريب المنون لكن لا يصل إلى الكفر وإنما لم يصل إليه باعتبار آخر لا يكاد يقع من أولئك المخاطبين، وقيل: المراد: تحبونهم لأنكم تريدون الإسلام لهم وتدعونهم إلى الجنة ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال وفي ذلك الهلاك، ولا يخفى ما فيه. اهـ..قال ابن عاشور: وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل هأنا تقدم في قوله تعالى في سورة [البقرة: 85]: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} ولمّا كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قيل: {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم} فالعَجب من محبّة المؤمنين إيّاهم في حال بغضهم المؤمنين، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلاّ والقصد التعجّب من مضمون تلك الجملة.وجملة {ولا يحبونكم} جملة حال من الضمير المرفوع في قوله: {تحبونهم} لأنّ محلّ التّعجيب هو مجموع الحالين.وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط، ولكنَّه مجرد إيقاظ، ولذلك عقّبه بقوله: {وتؤمنون بالكتاب كله} فإنَّه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد إيمان المؤمنين، لأنّ المؤمنين لمَّا آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه، وأدخلوا فيه التّحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتّباع ما ليس بحقّ.وهذان النظران، منّا ومنهم، هما أصل تسامح المسلمين مع قوّتهم، وتصَلُّب أهل الكتابين مع ضعفهم. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ}: .قال الفخر: في الآية إضمار، والتقدير: وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به، وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معًا فكان ذكر أحدهما مغنيًا عن ذكر الآخر. اهـ..قال القرطبي: والكتاب اسم جنس؛ قال ابن عباس: يعنى بالكُتُب.واليهود يؤمنون بالبعض؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ الله قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91]. اهـ..قال الفخر: ذكر (الكتاب) بلفظ الواحد لوجوه:أحدها: أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس.وثانيها: أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل، فلهذا لم يقل الكتب بدلًا من الكتاب، وإن كان لو قاله لجاز توسعًا. اهـ.فصل:قال الفخر:تقدير الكلام: أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، ونظيره قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]. اهـ..قال ابن عطية: وقوله: {وتؤمنون بالكتاب كله} يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب، ويعترضها أن منافقي اليهود لم يخفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانًا مطلقًا ويكفرون في الباطن، كما كان المنافقون من العرب يفعلون، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم: {آمنا} معناه: صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة، وهذا منزع قد حفظ أن كثيرًا من اليهود كان يذهب إليه، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم: {آمنا}، عض الأنامل من الغيظ، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله تعالى: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم} [البقرة: 14] بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الإباضية.قال القاضي أبو محمد: وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة. اهـ..قال أبو حيان: وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانًا مطلقًا ويكفرون في الباطن إلاَّ ما روي من أمر زيد فيه نظر، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك، ذكره البيهقي وغيره.ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك، إذ وجد ذلك في جنسهم.وكثيرًا ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره 43}..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ}: .قال الفخر: المعنى: أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة، وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل، كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان، صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان: أنه يعض يده غيظًا وإن لم يكن هناك عض، قال المفسرون: وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم.ثم قال تعالى: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي. اهـ..قال ابن عاشور: وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر.وإن لم يكن عَضّ أنامل محسوسًا، ولكن كنّي به عن لازمه في المتعارف، فإنّ الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذلك الانفعال، فقد تكون مُعِينة على دفع انفعاله كقتل عدوّه، وفي ضدّه تقبيل من يحبّهُ، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله، كتخبّط الصّبي في الأرض إذا غضب، وضَرب الرجل نفسه من الغضب، وعضّه أصابعه من الغيظ، وقرعه سنّه من النَّدم، وضرب الكفّ بالكفّ من التحسّر، ومن ذلك التأوّه والصّياح ونحوها، وهي ضروب من علامات الجزع، وبعضها جبلّي كالصياح، وبعضها عادي يتعارفه النَّاس ويكثر بينهم، فيصيرون يفعلونه بدون تأمّل، وقال الحارث بن ظالم المري:وقوله: {عليكم} على فيه للتَّعليل، والضّمير المجرور ضمير المسلمين، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معيّنة، أي على التئامكم وزوال البغضاء، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100]، ونظير هذا التعليق قول الشاعر: و{من الغيظ} من للتعليل.والغيظ: غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام. اهـ. .قال الألوسي: {قُلْ} يا محمد بلسانك، وقيل: المراد حدث نفسك بإذلالهم وإعزاز الإسلام من غير أن يكون هناك قول، وقيل: هو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب الخصماء فإنه لا أقطع للمحبة من جراحة اللسان فالمقصود على هذا من قوله تعالى: {مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} مجرد الخطاب بما يكرهونه، والصحيح الذي اتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم وكون ذلك مما فيه خفاء إذ لا يخاطب المدعو عليه بل الله تعالى ويسأل منه ابتلاؤه لا خفاء في خفائه وأنه غفلة عن قولهم قاتلك الله تعالى، وقولهم: دم بعز، وبت قرير عين، وغيره مما لا يحصى، والمراد كما قيل: الدعاء بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به، وهذا عند العلامة الثاني من كناية الكناية حيث عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعز اسمه وذلك لأن مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس مما يحسن أن يطلب ويدعى به.وتعقب بأن المجاز على المجاز مذكور وأما الكناية على الكناية فنادرة وقد صرح بها السبكي في قواعده الأصولية ونقل فيها خلافًا، ومع هذا الفرق بين الكناية بالوسائط والكناية على الكناية مما يحتاج إلى التأمل الصادق ولعله فرق اعتباري، وأيضا ما ذكره من أن مجرد الموت بالغيظ الخ مدفوع بأنه يمكن أن يكون المحسن لذلك ما فيه من الإشارة إلى ذمهم حيث إنهم قد استحقوا هذا الموت الفظيع والحال الشنيع. اهـ.
|