الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: {وَإن تَصْبِرُواْ} على تلك الشدائد عند ورودها {وَتَتَّقُواْ} أي تتمسكوا بتقوى الله تعالى وطاعته والتبتل إليه بالكلية والإعراض عما سواه بالمرة بحيث يستوي عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه {فَإِنَّ ذلك} إشارة إلى المذكور ضمنًا من الصبر والتقوى.وما فيه من معنى البعد إما لكونه غير مذكور صريحًا على ما قيل، أو للإيذان بعلو درجة هذين الأمرين وبعد منزلتهما.وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين اعتناءًا بشأن المخاطب به، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير (ملاحظة) خصوصية أحوال المخاطبين. اهـ..قال الفخر: الصبر عبارة عن احتمال المكروه، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى، لأن الإنسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي، وفيه وجه آخر: وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الاساءة بالاساءة تفضي إلى ازدياد الإساءة، فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا، وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة، فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة. اهـ.قال الفخر:قوله: {مِنْ عَزْمِ الأمور} أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه، وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه، فتأخذ نفسه لا محالة به، والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل: عزمت عليك أن تفعل كذا، أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفًا بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه، ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون معناه: فإن ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به، والله أعلم. اهـ..قال الألوسي: {مِنْ عَزْمِ الأمور} أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف والعز، أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده، وعلى كلا التقديرين فالعزم مصدر بمعنى المعزوم وهو مأخوذ من قولهم عزمت الأمر كما نقله الراغب والأشهر عزمت على الأمر، ودعوى أنه لم يسمع سواه غير مسموعة كدعوى عدم صحة نسبة العزم إليه تعالى لأنه توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله وهو محال عليه تعالى، ومما يؤيد صحة النسبة أنه قرئ {فَإِذَا عَزَمْتَ} [آل عمران: 159] بضم التاء وهو حينئذٍ بمعنى الإرادة والإيجاب، ومنه قول أم عطية رضي الله تعالى عنها: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا» وما في حديث آخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة، وقولهم: عزمات الله تعالى كما نقله الأزهري ومن هذا الباب قول الفقهاء: ترك الصلاة زمن الحيض عزيمة، والجملة تعليل لجواب (الشرط) واقع موقعه كأنه قيل: وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم أو فقد أحسنتم أو نحوهما فإن ذلك الخ، وجوز أن يكون {ذلك} إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فحينئذٍ تكون الجملة بنفسها جواب الشرط، وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى، وزعم بعضهم أن هذا الأمر الذي أشارت إليه الآية كان قبل نزول آية القتال وبنزولها نسخ ذلك، وصحح عدم النسخ وأن الأمر بما ذكر كان من باب المداراة التي لا تنافي الأمر بالقتال، وسبب نزول هذه الآية في قول ما تقدمت الإشارة إليه، وأخرج الواحدي عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ وذلك قبل أن يسلم عبد الله فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشي المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله تعالى، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبيّ: أيها المرء أنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، وقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبيّ قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله تعالى بالحق الذي نزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله تعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق فغص بذلك فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية. اهـ..قال الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين سيبتلون في أموالهم وأنفسهم، وسيسمعون الأذى الكثير من أهل الكتاب والمشركين، وأنهم إن صبروا على ذلك البلاء والأذى واتقوا الله، فإن صبرهم وتقاهم من عزم الأمور، أي من الأمور التي ينبغي العزم والتصميم عليها لوجوبها.وقد بين في موضع آخر أن من جملة هذا البلاء: الخوف والجوع وأن البلاء في الأنفس والأموال هو النقص فيها، وأوضح فيه نتيجة الصبر المشار إليها هنا بقوله: {فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} وذلك الموضع هو قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين الذين إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون} [البقرة: 155-157] وبقوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] ويدخل في قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ} الصبر عند الصدمة الأولى، بل فسره بخصوص ذلك بعض العلماء، ويدل على دخوله فيه قوله قبله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [التغابن: 11].وبين في موضع آخر: أن خصلة الصبر لا يعطاها إلا صاحب حظ عظيم وبخت كبير، وهو قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] وبين في موضع آخر: أن جزاء الصبر لا حساب له، وهو قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب} [الزمر: 10]. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {لَتُبْلَوُنَّ} هذا جوابُ قَسَم محذوف، تقديره: والله لَتُبْلَوُنّ، وهذه الواو هي واو الضمير، والواو التي هي لام الكلمة حُذَفَتْ لأمر تصريفيِّ، وذلك أن أصله: لَتُبْلَوُّنَنَّ، فالنون الأولى للرفع، حُذِفَتْ لأجل نونِ التوكيد، وتحرَّكت الواوُ الأولى- التي هي لامُ الكلمةِ- وانفتح ما قبلَهَا فقُلِبَتْ ألفًا، فالتقى ساكنان- الألف وواو الضمير- فحُذَفَتْ الألف؛ لئلا يلتقيا، وضُمَّتْ الواو؛ دلالةً على المحذوف.وإنْ شئتَ قلت: استُقْبِلَتْ الضمةُ على الواو الأولى، فحُذِفَت، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الواوُ الأولى وحُرِّكت الثانية بحركة مجانسةٍ، دلالةً على المحذوف. ولا يجوز قَلْبُ مثل هذه الواوِ همزةً؛ لأن حركتها عارضةٌ ولذلك لم تُقلَب ألِفًا، وإن تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلَها.ويقال للواحدِ من المذكَّر: لتُبْلَوَنَّ يا رجلُ وللاثنين: لتبليانِّ يا رجلانِ، ولجماعة الرجال: لتبلوُنَّ. وأصل {لَتسْمعنَّ}: لَتَسْمَعُونَنَّ، ففعل فيه ما تقدم، إلا أن هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير؛ لأن قَبْلَهَا حَرْفًا صحيحًا. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: .قال في ملاك التأويل: قوله تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وفي سورة لقمان: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} بغير لام في خبر إن في الآيتين وفي سورة الشورى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} فزيد في هذه الآية اللام المذكورة في الخبر فقيل: {لمن عزم الأمور} فللسائل أن يسأل عن الفرق.والجواب والله أعلم اختلاف ما وقع الحض على الصبر عليه في هذه الآيات وأشير اليه بذلك وأنه من عزم الأمور أما الأولى فإن قبلها: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} فوقع الأخبار بالابتلاء في الأموال والأنفس وسماع الأذى ممن ذكر فعرفوا بثلاث ضروب وأمروا بالصبر عليها وهو أربعة أشياء بالتفت التفصيل في المسموع منه الأذى واعلموا أن الصبر عليها من عزم الأمور وأما آية لقمان فأشير فيها بذلك إلى أربع خصال أمر بها لقمان لبنه وذلك قوله: {يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} وأتبعت بقوله تعالى: {إن ذلك من عزم الأمور} والأربعة في الآيتين من العدد القليل وأما آية الشورى فالاشارة فيها بقوله: {إن ذلك} إلى اثنى عشر مطلوبا من لدن قوله تعالى: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا} وهذه اشارة إلى التنزه عن ذلك ثم قيل للذين آمنوا: {وعلى ربهم يتوكلون} فالاشارة إلى الإيمان والتوكل والتزام ذلك ثم قال تعالى: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} فهذه التزامات ثلاثة ثم قال: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} فهذه التزامات أربع ثم قال: {والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون} فأشار إلى أن هؤلاء لا يظلمون أحدا وان أقصى ما يقع منهم الانتصار ممن يظلمهم وذلك مباح لهم غير قبيح وقد قيل بقوله بعد: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ثم عرف بحال أجل من ذلك وأعلى عملا فقال: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} وأعلم مع علو هذا الملتزم أن المنتصر من ظلمه ما عليه من سبيل وإنما السبيل إنما هو على ظالمى الناس والباغين، وبعد هذه الخصال النيفة على العشر قال تعالى في التزام جميعها: {إن ذلك لمن عزم الأمور}.فناسب كثرة هذه الخصال الجليلة زيادة اللام المؤكدة في قوله: {إن ذلك لمن عزم الأمور} ولم يكن في الآيتين قبلها كثرة فناسبها عدم زيادة اللام على أن ما ختمت به آية الشورى من قوله: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} وهى الخصلة الشاهدة بكمال الإيمان للمتصف بها فلو لم يكن قبل قوله: {إن ذلك لمن عزم الأمور} غيرها لكانت بمعناها أعم من الخصال المذكورة في آية آل عمران إذ تلك الخصال داخلة تحت هذه الخصلة الجليلة ومن منطوياتها فناسب ذلك أتم المناسبة ولم يكن العكس ليناسب والله سبحانه أعلم. اهـ..قال ابن عاشور: قال تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159] والمراد هنا العزم في الخيرات، قال تعالى: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف: 35] وقال: {ولم نجد له عزما} [طه: 115].ووقع قوله: {فإن ذلك من عزم الأمور} دليلًا على جواب الشرط، والتقدير: وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور. اهـ..من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}.كفاهم أكثر أسباب الضر بما أخبرهم عن حلولها بهم قبل الهجوم، وعرّفهم أن خير الأمريْن لهم إيثار الصبر واختيار السكون تحت مجاري الأقدار. اهـ..من فوائد الشعراوي في الآية: قال رحمه الله:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}.والبلاء في المال بماذا؟ بأن تأتي آفة تأكله، وإن وجد يكون فيه بلاء من لون آخر، وهي اختبارك هل تنفق هذا المال في مصارف الخير أو لا تعطيه لمحتاج، فمرة يكون الابتلاء في المال بالإفناء، ومرة في وجود المال ومراقبة كيفية تصرفك فيه، والحق في هذه الآية قدم المال على النفس؛ لأن البلاء في النفس يكون بالقتل، أو بالجرح، أو بالمرض. فإن كان القتل فليس كل واحد سيقتل، إنما كل واحد سيأتيه بلاء في ماله.{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} هما إذن معسكران للكفر: معسكر اهل الكتاب، ومعسكر المشركين. هذان المعسكران هما اللذان كانا يعاندان الإسلام، والأذى الكثير تمثل في محاولة إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأذى الاستهزاء بالمؤمنين، وأهل الكفر والشرك يقولون للمؤمنين ما يكرهون، فوطّنوا العزم أيها المسلمون أن تستقبلوا ذلك منهم ومن ابتلاءات السماء بالقبول والرضا.ويخطئ الناس ويظنون أن الابتلاء في ذاته شرّ، لا. إن الإبتلاء مجرد اختبار، والاختبار عرضة أن تنجح فيه وأن ترسب، فإذا قال الله: {لتبلون}، أي سأختبركم- ولله المثل الأعلى- كما يقول المدرس للتلميذ: سأمتحنك فنبتليك يعني نختبرك في الامتحان، فهل معنى ذلك أن الابتلاء شرّ أو خير؟. أنه شرّ على من لم يتقن التصرف. فالذي ينجح في البلاء في المال يقول: كله فائت، وقلل الله مسئوليتي، لأنه قد يكون عندي مال ولا أُحسن أداءه في مواقعه الشرعية، فيكون المال عليّ فتنة. فالله قد أخذ مني المال كي لا يدخلني النار، ولذلك قال في سورة الفجر: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15-16].فهنا قضيتان اثنتان: الإنسان يأتيه المال فيقول: ربي أكرمني، وهذا أفضل ممن جاء فيه قول الحق: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص: 78].إذن فالذي نظر إلى المال وظن أنّ الغني إكرام، ونظر إلى الفقر والتضييق وظن أنه إهانه، هذا الإنسأن لا يفطن إلى الحقيقة، والحقيقة يقولها الحق: {كلا} أي أن هذا الظن غير صادق؛ فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة، ولكن متى يكون المال دليل الكرامة؟ يكون المال دليل كرامة إن جاءك وكنت موفقًا في أن تؤدي مطلوب المال عندك للمحتاج إليه، وإن لم تؤد حق الله فالمال مذلة لك وإهانة، فقد اكون غنيًا لا أعطى الحق، فالفقر في هذه الحالة أفضل، ولذلك قال الله للاثنين: {كلا}، وذلك يعني: لا إعطاء المال دليل الكرامة ولا الفقر دليل الإهانة.وأراد سبحانه أن يدلل على ذلك فقال: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا} [الفجر: 17-19].{كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} وما دمتم لا تكرمون اليتيم فكيف يكون المال دليل الكرامة؟ إن المال هنا وزر، وكيف إن سلبه منك يا من لا تكرم اليتيم يكون إهانة؟.. أنه سبحانه قد نزهك أن تكون مهانا، فلا تتحمل مسؤلية المال. إذن فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة.
|