الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويؤيد هذا قوله بعد {ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون} [سورة النحل: 113].ولعلّ المخاطب بهذا المثل هم المسلمون الذين هاجروا من بعد ما فُتنوا، أي أصحاب هجرة الحبشة تسليةً لهم عن مفارقة بلدهم، وبعثًا لهم على أن يشكروا الله تعالى إذ أخرجهم من تلك القرية فسلموا مما أصاب أهلها وما يصيبهم.وتقدّم معنى القرية عند قوله تعالى: {أو كالذي مرّ على قرية} في سورة البقرة (259).والمراد بالقرية أهلها إذ هم المقصود من القرية كقوله: {واسأل القرية} [سورة يوسف: 82].والأمن: السلامة من تسلّط العدو.والاطمئنان: الدّعة وهدوء البال.وقد تقدّم في قوله تعالى: {ولكن ليطمئنّ قلبي} في سورة البقرة (260)، وقوله: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} في [سورة النساء: 103].وقدم الأمن على الطمأنينة إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه، كما أن الخوف يسبّب الانزعاج والقلق.وقوله: {يأتيها رزقها رغدًا} تيسير الرزق فيها من أسباب راحة العيش، وقد كانت مكّة كذلك.قال تعالى: {أو لم نمكّن لهم حرمًا آمنًا تجبى إليه ثمرات كل شيء} [سورة القصص: 57].والرزق: الأقوات.وقد تقدم عند قوله: {لا يأتيكما طعام ترزقانه} في سورة يوسف (37).والرّغد: الوافر الهنيء.وتقدم عند قوله: {وكلا منها رغدًا حيث شئتما} في سورة البقرة (35).و{من كل مكان} بمعنى من أمكنة كثيرة.و{كل} تستعمل في معنى الكثرة، كما تقدم في قوله تعالى: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} في سورة الأنعام (25).والأنعمُ: جمع نعمة على غير قياس.ومعنى الكفر بأنعم الله: الكفر بالمنعِم، لأنهم أشركوا غيره في عبادته فلم يشكروا المنعم الحَقّ.وهذا يشير إلى قوله تعالى: {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون} [سورة النحل: 83].واقتران فعل كفرت بفاء التعقيب بعد كانت {آمنة مطمئنة} باعتبار حصول الكفر عقب النعم التي كانوا فيها حين طرأ عليهم الكفر، وذلك عند بعثة الرسول إليهم.وأما قَرْن {فأذاقها الله لباس الجوع} بفاء التعقيب فهو تعقيب عُرفي في مثل ذلك المعقّب لأنّه حصل بعد مضي زمن عليهم وهم مصرّون على كفرهم والرسول يكرّر الدعوة وإنذارهم به، فلما حصل عقب ذلك بمدة غير طويلة وكان جزاء على كفرهم جعل كالشيء المعقّب به كفرهم.والإذاقة: حقيقتها إحساس اللسان بأحوال الطعوم.وهي مستعارة هنا وفي مواضع من القرآن إلى إحساس الألم والأذى إحساسًا مَكينًا كتمكّن ذوق الطعام من فم ذائقه لا يجد له مدفعًا، وقد تقدم في قوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} في سورة العقود (95).واللباس: حقيقته الشيء الذي يلبس.وإضافته إلى الجوع والخوف قرينة على أنه مستعار إلى ما يغشَى من حالة إنسان ملازمةٍ له كملازمة اللباس لابسَه، كقوله تعالى: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ} [سورة البقرة: 187]. بجامع الإحاطة والملازمة.ومن قبيلها استعارة {البِلى} لزوال صفة الشخص تشبيهًا للزوال بعد التمكّن ببلى الثوب بعد جدته في قول أبي الغول الطهوي:
واستعارة سلّ الثياب إلى زوال المعاشرة في قول امرئ القيس: ومن لطائف البلاغة جعل اللباس لباس شيئين، لأن تمام اللبسة أن يلبس المرء إزارًا ودرعًا.ولما كان اللباس مستعارًا لإحاطة ما غشيهم من الجوع والخوف وملازمتهِ أريد إفادة أن ذلك متمكّن منهم ومستقرّ في إدراكهم استقرار الطعام في البَطن إذ يُذاق في اللسان والحلق ويحسّ في الجَوف والأمعاء.فاستعير له فعل الإذاقة تمليحًا وجمعًا بين الطعام واللباس، لأن غاية القرى والإكرام أن يُؤْدَب للضيف ويُخلع عليه خلعة من إزار وبرد، فكانت استعارتان تهكّميتان.فحصل في الآية استعارتان: الأولى: استعارة الإذاقة وهي تبعية مصرحة، والثانية: اللباس وهي أصليّة مصرّحة.ومن بديع النظم أن جعلت الثانية متفرّعة على الأولى ومركّبة عليها بجعل لفظها مفعولًا للفظ الأولى.وحصل بذلك أن الجوع والخوف محيطان بأهل القرية في سائر أحوالهم وملازمان لهم وأنهم بالغان منهم مبلغًا أليمًا.وأجمل {بما كانوا يصنعون} اعتمادًا على سبق ما يبيّنه من قوله: {فكفرت بأنعام الله}.{وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)}.لما أخبر عنهم بأنهم أذيقوا لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وكان إنما ذكر مِن صُنعهم أنهم كفروا بأنعم الله، زيد هنا أن ما كانوا يصنعون عامّ لكل عمل لا يرضي الله غير مخصوص بكفرهم نعمةَ الله، وإن من أشنع ما كانوا يصنعون تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه منهم.وذلك أظهر في معنى الإنعام عليهم والرّفق بهم.وما من قرية أُهلكت إلا وقد جاءها رسول من أهلها {وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولًا يتلو عليهم آياتنا} [سورة القصص: 59].والأخذ: الإهلاك.وقد تقدم عند قوله تعالى: {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} في سورة الأعراف (95).وتأكيد الجملة بلام القسم وحرففِ التّحقيق للاهتمام بهذا الخبر تنبيهًا للسامعين المعرّض بهم لأنه محل الإنذار.وتعريف العذاب للجنس، أي فأخذهم عذاب كقوله: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضرّاء والسرّاء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} [سورة الأعراف: 95]. اهـ.
ولكن، القرية التي ضربها الله لنا مثلًا هنا، هل هي قرية معينة أم المعنى على الإطلاق؟ قد يُراد بالقرية قرية معينة كما قال البعض إنها مكة، أو غيرها من القرى، وعلى كلٍّ فتحديدها أمر لا فائدة منه، ولا يُؤثِّر في الهدف من ضَرْب المثل بها.والقرية: اسم للبلد التي يكون بها قِرىً لمن يمرُّ بها، أي: بلد استقرار، وهي اسم للمكان فإذا حُدِّث عنها يراد المكين فيها، كما في قوله تعالى: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82].فالمراد: اسأل أهل القرية؛ لأن القرية كمكان لا تُسأل.. هكذا قال علماء التفسير، على اعتبار أن في الآية مجازًا مرسلًا علاقته المحلية.ولكن مع تقدُّم العلم الحديث يعطينا الحق تبارك وتعالى مددًا جديدًا، كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53].والآن تطالعنا الاكتشافات بإمكانية التقاط صور وتسجيل أصوات السابقين، فمثلًا يمكنهم بعد انصرافنا من هذا المكان أن يُسجِّلوا جلستنا هذه بالصوت والصورة.ومعنى ذلك أن المكان يعي ويحتفظ لنا بالصور والأصوات منذ سنوات طويلة، وعلى هذا يمكن أن نقول: إن القرية يمكن أنْ تُسأل، ويمكن أن تجيب، فلديها ذاكرة واعية تسجِّل وتحتفظ بما سجَّلته، بل وأكثر من ذلك يتطلعون لإعادة الصور والأصوات من بَدْء الخليقة على اعتبار أنها موجودة في الجو، مُودعة فيه على شكل موجات لم تُفقد ولم تَضِع.وما أشبه هذه الموجات باندياح الماء إذا ألقيتَ فيه بحجر، فينتج عنه عدة دوائر تبتعد عن مركزها إلى أنْ تتلاشى بالتدريج.إذن: يمكن أن يكون سؤال القرية على الحقيقة، ولا شك أن سؤال القرية سيكون أبلغ من سؤال أهلها، لأن أهلها قد يكذبون، أما هي فلا تعرف الكذب.وبهذا الفهم للآية الكريمة يكون فيها إعجاز من إعجازات الأداء القرآني.وقوله تعالى: {كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} [النحل: 112].آمنةً: أي في مَأْمَن من الإغارة عليها من خارجها، والأمن من أعظم نِعَم الله تعالى على البلاد والعباد.وقوله: {مُّطْمَئِنَّةً} [النحل: 112].
|