الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ}: أي: حاملا خيانته على ظهره. أو لأنّه لا يكفّره إلّا ردّه على صاحبه.{هُمْ دَرَجاتٌ}: مراتب الثواب والعقاب مختلفة.النّار دركات، والجنّة درجات. وفي الحديث: «إنّ أهل الجنّة ليرون أهل عليين كما يرى النّجم في السّماء».{رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: ليكون ذلك من شرفهم ولسهولة تفهمهم عنه، لأنّه بلسانهم ولشدّة علمهم بأحواله من الصّدق والأمانة ونحوهما.{قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها}: قتل يوم أحد سبعون من المسلمين، وقد قتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين.{فَبِإِذْنِ الله}: بتخليته، أو بعلمه. ودخلت الفاء لأنّ خبر ما التي بمعنى الذي يشبه جواب الجزاء لأنّه يتعلق بالفعل في الصّلة كتعلّقه بالفعل في الشّريطة.{أَوِ ادْفَعُوا}: أي: بتكثير السّواد إن لم تقاتلوا.{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا}: يطلبون السّرور في البشارة بمن تقدّم عليهم من إخوانهم كما يبشر بقدوم الغائب أهله.ويروى: «يؤتى الشّهيد بكتاب فيه من يقدم عليه من أهله».واسم الشّهيد لأنّ أرواحهم أحضرت دار السّلام وأرواح غيرهم لا تشهدها إلى يوم البعث، أو لأنّ الله شهد لهم بالجنّة.ولما أراد معاوية أن يجري العين عند قبور الشّهداء أمر مناديا فنادى بالمدينة: من كان له قتيل فليخرج إليه، فخرجنا إليهم وأخرجناهم رطابا، فأصاب المسحاة إصبع رجل من الشّهداء فانقطرت دما.{الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ}: هو نعيم بن مسعود، ضمن له أبو سفيان مالا ليجبّن المؤمنين ليكون التأخر منهم. وإقامة الواحد مقام الجمع لتفخيم الأمر، أو للابتداء كما لو انتظرت قوما، فجاء واحد قلت: جاء النّاس.{يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ}: يخوّفكم أولياءه، أو يخوّف بأوليائه، كقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا}، أو يخوّف أولياءه فيخافون. وأمّا المؤمنون فلا يخافون بتخويفه.{لِيَزْدادُوا إِثْمًا}: لتكون عاقبة إبقائهم ازدياد الإثم.{وَما كانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}: في تمييز المؤمنين من المنافقين لما فيه من رفع المحنة.وجمع بين الزّبر والكتاب لاختلاف المعنى فهو زبور لما فيه من الزّبر والزّجر، وكتاب لضم الحروف وجمع الكلمات.{رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا}: فائدة الدّعاء لما هو كائن إظهار الخضوع للرّبّ من العبد المحتاج إليه في كلّ حال.{لا يَغُرَّنَّكَ}: أي: أيّها السّامع.{نُزُلًا}: على معنى المصدر، أو على التفسير كقولك: هو لك هبة.{سَرِيعُ الْحِسابِ}: أي: المجازاة على الأعمال وأنّ وقتها قريب، أو محاسبة جميع الخلق في وقت واحد.{اصْبِرُوا}: على طاعة الله، وَصابِرُوا أعداء الله.{وَرابِطُوا}: في سبيل الله، وهو ربط الخيل في الثّغر. اهـ.
أنزله على من أنزل عليه قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ} قطعية الدلالة على المعنى المراد لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير كما قال الأبوصيري: وإنما خص بعض الأحكام هنا وعممها أول سورة هود، لأن الإحكام الذي عممه هناك غير الإحكام الذي خصصه هنا، لأنه بمعنى الإحكام العام الذي لا يتطرق إليه التناقض والفساد، كإحكام البناء، لأن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدّمة عليه التي تخالف أحكامه، والمراد بالإحكام الخاص هنا أن بعض آياته قد يتطرق إليها التقيد والتخصيص بآيات أخرى منه لم تقيد ولم تخصص بغيرها وهي ما يسميه بعض العلماء نسخا من حيث لا نسخ بالمعنى المراد في أقوال علماء الناسخ والمنسوخ، تأمل.وهذه المحكمات لا تتأول لوضوح معانيها وظهور دلالتها فهي محفوظة من احتمال الشبه، ولهذا وصفهن الله بأنهنّ {هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ} المعول عليها بحيث لا يستهدفها التفسير والتصرف، ولا يحول حولها التغيير والتبديل بالتعبير إلى أبد الآبد وَمنه آيات {أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} لا يمتاز بعضها عن بعض فيتطرق إليها التفسير والتأويل، لأنها تحتمل معاني كثيرة فتحتاج للتأمل والتدبر، وقد يكل العقل عن فهم المراد منها فلا يتضح بعضه ولا يفهم المعنى منه إلا بالنظر والتدقيق والتأمل والتدبر، لأن منها ما يشبه غيرها لفظا ومعنى، وقد يشابه اللفظ اللفظ ويختلف المعنى، ويشابه المعنى المعنى ويختلف اللفظ، وإذا كان للفظ الواحد معان كثيرة صالحة لأن تؤول به أشياء متباينة فلا يعلم القصد الحقيقي الموضوع له إلا من قبل واضعه وهو الله عز وجل، لذلك فإن البشر عاجز عن معرفة المقصود منه.واعلم أن آيات القرآن كلها محكمة وحق وصدق لا بحث فيها من هذه الحيثية كما جاء في آية هود، ولكن من حيث أن كلمه يشبه بعضها بعضا في الحق والصدق، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، وجزالة النظم وصحة المعنى وحقيقة المدلول، فكله متشابه كما جاء في آية الزمر في قوله: {كِتابًا مُتَشابِهًا} الآية 23، وهذا هو وجه الجمع بين هذه الاية التي نحن بصددها والآيتين المذكورتين، ولا منافاة بينهما البتة، راجع الآية 82 من سورة النساء الآتية، وعليه يصح أن نقول القرآن كله محكم على الوجه الذي بيناه في سورة هود، وكله متشابه على النحو الذي ذكرناه في سورة الزمر، ومحكم من وجه متشابهه من آخر على الصورة التي أوضحناها هنا.ثم اعلم أن الآيات المحكمة هي ما تشتمل على الأحكام من حلال وحرام، وأمر ونهي، ووعد ووعيد، وحدود مما قد أطلع الله عليه عباده على معناه، ولم تكرر ألفاظه بمعنى آخر، ولم يحتج إلى بيان، ومنه الآيات المدنيات في سورة الأنعام المكية التي أولها {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ} إلخ من 151/ 153 إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ونظيرها الآيات المكيات من 22/ 26 ومن 27/ 31 ومن 34/ 39 من سورة الإسراء المكية من قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ الله إِلهًا آخَرَ} إلى قوله: {مَدْحُورًا}، وفيها الوصايا العشر المذكورة في التوراة والمشار إليها في الاصحاح الخامس من إنجيل منى بفصول متفرقة، والمتشابه ما عدا ذلك مما يحتمل التأويل والتفسير وتحوير المعنى بحسب ما يحتمله اللفظ من أوجه كثيرة.واحتاج للبيان وتكررت ألفاظه كالقصص والأخبار والأمثال من جميع ما يشبه بعضه بعضا، ومنه ما استأثر الله تعالى بعلمه فلا سبيل إلى معرفته كالخبر عن أشراط الساعة ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج وقيام الساعة والروح ومحل موت الإنسان ودفنه وكسبه ونزول الغيث وما في الأرحام، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان.ثم اعلم أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدا أو معاني كثيرة فالأول يسمى نصا كقوله تعالى: {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ}، والثاني إما أن تكون دلالته على مدلولين أو مدلولات متساوية أم لا فالأول يسمى المجمل كقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإنه يدل على الحيض والطهر راجع الآيتين 222/ 228 من سورة البقرة المارة، وقد بينا فيها أن الأرجح هو الحيض لا الطهر لتأييده بالحديث الصحيح المذكور هناك، وقد استدل من قال أنه بمعنى الطهر بقول الأعشى: أراد أنه يخرج للغزو ولم يغش نساءه أيام طهرهن لأنه يضيع أيام الطهر بالسفر لا أيام الحيض.والثاني الذي يدل على مدلولات كثيرة فهو بالنسبة إلى الراجح ظاهر لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ} الآية 22 من سورة النساء الآتية، وبالنسبة إلى المرجوح مؤول لقوله تعالى: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله} لأنه قد يرد إلى قوله تعالى: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} الآية 145 من البقرة المارة {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} عن الحق وميل إلى الشك كوفد نجران المار ذكره واليهود الذين أرادوا معرفة بقاء ملك محمد صلّى الله عليه وسلم من مجموع أعداد الحروف المقطعة أوائل السور القرآنية على حساب الجمل من حروف الأبجدية من ألف أبجد إلى ياء حطي آحاد، ومنه إلى س سعفص عشرات، ومنه إلى غ ضظغ مئات، إذ قالوا إن حرف نون يدل على خمسين، وق على مئة، وحروف الم تدل على بقاء ملك محمد إحدى وسبعين سنة، وحروف كهيعص تدل على 165 والمص على 161، والراء على 231، والمرا على 271 سنة، ولذلك اختلط الأمر علينا فلا نؤمن بك، فنزلت {فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} أي ليفتنوا الناس فيضلوهم عن دينهم بالتشكيك والتلبيس بداعي أن المحكم مناقض للتشابه على زعمهم {وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ} وطلب تفسيره حسبما تسول لهم أنفسهم، وتشتهيه أهواؤهم، وتميل إليه قلوبهم من التأويلات الزائغة.والآيات هذه بمعزل عما يتخيلونه من المعاني ويتصورونه من الحسبان، لقوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} على الحقيقة المرادة منه {إِلَّا الله} الذي أنزله، وذلك مثل قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} وقوله: {بيده الملك} وكذلك ما جاء في المجيء والإتيان والقبض المنسوب إليه تعالى مما جاء في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المعبر عنها بآيات الصفات وأحاديثها، والحكمة في عدد زبانية جهنم، وحملة العرش، ودركات النار، ودرجات الجنة، وركعات الصلاة، وأيام الصوم، واختصاصه برمضان، وبعض أركان الحج، ووقت قيام الساعة، ومعنى الحروف المقطعة أوائل السور، ووقت طلوع الشمس من مغربها وظهور الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج الدابة، وبقية أشراط الساعة، وفناء الدنيا.وهنا تم الكلام بالوقف على لفظ الجلالة، وما بعده كلام مستأنف فيبتدئ القارئ بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} الثابتون فيه الذين أتقنوا أصوله وفروعه بحيث بلغوا من اليقين فيه حدا لا يتطرق إليهم الشك والشبهة معه، لأن هؤلاء الأبرار القادة الأخيار {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي المتشابه على ما هو عليه، واعتقدنا أحقيته على ما جاء من الله، واعترفنا أن أفهام البشر قاصرة عن معرفة المراد منه، وهذا هو إيمان التسليم وهو مذهب السلف الصالح كما أشرنا إليه عند كل ذكر يتعلق به، راجع الآية 210 من سورة البقرة المارة.
|