الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل في الوجه نفسه: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (72) عن دينهم لقد تفنن اليهود بالتلبيس لأنهم من جند إبليس فقد استجروا أولا معاذ بن جبل وحذيفة اليمان وعمار بن ياسر وجما وحببوا لهم دينهم وترك الإسلام فنزلت فيهم الآية المتقدمة قبل هذه فلم يتجحوا ثم صاروا يحرفون الكتب الإلهية ويغيرون ما فيها من نعت الرسول والبشارة والأمر باتباعه كما فعلوا زمن عيسى، فلم يفلحوا، ثم اخترعوا هذه الطريقة الثالثة فتواطأ منهم اثنا عشر رجلا من أحبارهم بأن يؤمنوا بمحمد بادئ الرأي، يكفروا به، ليبينوا للناس أنه تبين لهم أنه على غير الحق وأنه غير النبي المبعوث آخر الزمان المخبر عنه في كتابهم، ليشككوا الناس فيه، فنزلت هذه الآية فيه ليخبر حضرة الرسول أصحابه بما دبروه من الكيد والحيل ليكونوا على بصيرة أمرهم.تشير هذه الآية إلى أن اليهود دأبهم إضمار الشر للمسلمين، فيجب أن يحذروا من مكايدهم لأنهم جبلوا على السوء، وأنهم لا يحسنون ظنهم بمن هو ليس على دينهم، وإلى هنا انتهى قول اليهود والذي حكاه الله عنهم.ثم التفت يخاطب المؤمنين بعد أن بين لهم مطويات اليهود الخبثاء، فقال: {وَلا تُؤْمِنُوا} أيها المؤمنون {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} وانقاد لأوامر شريعتكم، لأن النصير واجبة لبعضكم على بعض، وإياكم أن تركنوا لأقوال أهل الكتاب، فإنهم لا يودّوكم إلا ظاهرا، وإنهم يبطنون لكم الشر، وإياكم والميل إليهم، وعليكم أن تتناصحوا بينكم وتتصادقوا، فالمؤمن أخو المؤمن لا يكذبه ولا يحقره ولا يسلمه في كل حال مهما استطاع.وأعرضوا بكلكم عن خلط أهل الكتاب وخاصة اليهود فإنهم أهل بهت يريدون أن يوقعوا الشك في دينكم، وليس بنافعهم ذلك، ولم يزدهم إلا فضيحة وضلالا، ويزيد المؤمنين تصديقا ويقينا، فلا تقبلوا نصيحة ما إلا من أهل دينكم، وإن هؤلاء الأحبار وغيرهم يقصدون إضلالكم لتكونوا مثلهم، فالحذر كل الحذر منهم.ثم التفت إلى رسوله فقال: {قُلْ} يا سيد الرسل إلى قومك وغيرهم {إِنَّ الْهُدى} الذي جئتكم به وأدعوكم إليه أيها الناس هو {هُدَى الله} فتمسكوا به فهو الذي يقيكم من مكايدهم وان كل ما يأتون به من خدع وتلبيس لا يؤثر فيكم أيها المؤمنون ما دمتم متمسكين بهدى الله، لأن المؤمن المخلص لا يصده صادّ عن دينه، ولا تصدقوا أبدا {أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ} من الكتاب والهدى والدين، واعلموا أنه لا نبي بعد نبيكم، ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة، ولا تصدقوا أقوال اليهود بأنهم يخاصمونكم {أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} بأن دينهم هو الواجب التقيد به، كلا فإن دينكم خير الأديان وقد جعله الله ناسخا لما تقدمه مما يخالفه، فلا يقدرون على محاجتكم في هذا لأنكم أحق منهم وأهدى.وقد جاءت جملة إن الهدى اعتراضية لتأكيد أحقية دين الإسلام وتعجيل المسرة بالنتيجة.ويا سيد الرسل {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} من عباده إنعاما منه {وَالله واسِعٌ} على من يريد أن يوسع عليه، لأن خزانته لا تنفد، وعطاءه غير محدود، وهو {عَلِيمٌ (73)} بمن يؤهله لعطائه ويفضله على غيره ويوسع عليه برحمته.وهذا الذي جرينا عليه في تفسير هذه الآية على رأي بعض المفسرين أولى من غيره وأحسن بالمقام.وقال أكثر المفسرين إن الخطاب في هذه الآية لليهود من تتمة ما حكاه الله عنهم، وعليه يكون المعنى لا تصدقوا أيها اليهود إلا لمن يتبع دينكم من ملتكم، لأن أحدا لم يؤت مثل ما أوتيتم من التوراة التي فيها العلم والحكمة والآيات التي أظهرها الله على يد رسولكم موسى، ولا تصدقوا أن الإسلام يخاصمونكم عند الله كما يقوله محمد، لأن دينكم أقدم الأديان وأصحها {إِنَّ الْهُدى} إلخ اعتراضية أيضا، وقد أتى بها بمعنى أن الذي أنتم عليه إنما صار دينا بحكم الله وهو الهدي الذي هدى الناس إليه وأمر باتباعه، فإذا أمر باتباع دين غيره وجب الانقياد إليه إذعانا لحكمه ولكنه لم يأمر.وقال بعض المفسرين انتهى ما حكاه الله عن اليهود عند قوله: {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} وما بعد خطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعليه تتجه قراءة الحسن والأعمش {أَنْ يُؤْتى} بكسر الهمزة (من إن) وما جرينا عليه أولى لسلامة الآية عن التبعيض ولمناسبتها لسياق ما بعدها وكون التفضيل المنبئة عنه هذه الآية أولى بأن يعزى لسيد الأنبياء وسيد الكتب وخير الأمم.وهذه الآية من أصعب آيات القرآن تفسيرا بعد سورة البينة، والآية 108 من المائدة الآتيتين، هذا والله أعلم، وهو الذي {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} من خلقه {وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)} الذي لا يوازيه فضل.تشير هذه الآية إلى أن فضل الله ورحمته لا يتقدان بسبب ولا علة وان من هداه الله لحقه عن يقين لن يرجع عن هداه بترهات المبطلين، وان التذبذب في الإنسان دليل على عدم صحة عقيدته.قال تعالى مبينا شأن أولئك الظالمين {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} عند ما تطلبه منه دون مماطلة أو جحود تقيّدا بما أمرهم الله به من أداء الأمانة {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا} بالمطالبة والإلحاح {ذلِكَ} عدم أدائه الأمانة ناشئ عن استحلال مال من لم يكن على دينهم خلافا لدينهم {بأنهمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي ليس عليهم إثم في أكل أموال الأميين أمة محمد لأنهم على غير دينهم ويعزون هذا إلى التوراة، فكذّبهم الله بقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ} بنسبة ما لم يذكره في كتابهم إليه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} أنه كذب، والواو هنا حالية أي يقولون ذلك والحال أنهم يعلمون خلافه وعدم صحته.قالوا نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام إذ أودع عنده رجل من قريش قبل إسلامه ألفا ومئتي أوفية من ذهب فأداها إليه حال طلبه والشق الأخير منها في فنخاص ابن عازوراء إذ استودعه رجل من العرب دينارا واحدا فجحده ولم يؤده إليه إلا بعد مخاصمة وبيّنة.وهي عامة في كل من هذا شأنه من الطرفين، وقد بينا ما يتعلق بحق الأمانة أول سورة المؤمنين.قال تعالى: {بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ} الذي عاهد عليه ربه في التوراة الذي من جملته لزوم أداء الأمانة إلى أي كان {وَاتَّقى} الخيانة فيها والمماطلة بدفعها إذ عليه أن يؤدي ما ائتمن عليه لأنه من الوفاء المأمور به، والتقوى التي هي أساس الدين {فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)} روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} قلله الله تعالى لأنه مهما كان كثيرا فهو قليل بالنسبة لما ينجم عنه، لأن فيه أكل مال الغير بغير حقه وهو عظيم عند الله تعالى لأنه أعظم من أكله أموال الناس بالباطل، راجع الآيتين 188/ 282 من سورة البقرة المارة، والآيتين 28/ 72 من سورة الأحزاب الآتية، ولهذا قد وجه الله تعالى إلى أمثال هؤلاء الذمّ والمهانة في الدنيا، وأكبر لهم العقاب في الآخرة بقوله: {أُولئِكَ} الذين هذا شأنهم في خيانة الأمانة وبيع آيات الله بالثمن البخس وكتم ما أنزل الله فيها وتبديله أو تغييره والحلف كذبا ولا يضعون نصب أعينهم العاقبة الوخيمة ولا يتخيّلون ما رتب الله عليهم من العذاب {لا خَلاقَ} حظ ولا نصيب {لَهُمْ فِي} منافع ونعيم وفضل {الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله} بما يسرّهم فيها {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} نظر رحمة وعطف {يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} من أدران الذنوب وأوساخ العيوب {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 77} لا تطيقه قواهم.يدخل في هذه الآية رؤساء اليهود كأبي رافع ولبابة أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأضرابهم الذين اعتادوا هذه الأفعال القبيحة تجاه ما يأخذونه من رعاعهم.
|