الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى وَعِيدَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يُعَدُّ مَنْ وُصِفُوا فِي الْآيَةِ أَشَدَّهُمْ ظُلْمًا وَأَفْحَشَهُمْ جُرْمًا فَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} إِلَخْ. الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ثُمَّ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ قَرَأَهُ، وَجَوَابُ {لَوْ} مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ، وَالْغَمَرَاتُ جَمْعُ غَمْرَةٍ. قِيلَ: هِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْمَرَّةُ مِنْ غَمَرَهُ الْمَاءُ إِذَا غَطَّاهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ لِلشِّدَّةِ وَعَلَيْهِ الشِّهَابُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْغَمْرِ إِزَالَةُ أَثَرِ الشَّيْءِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُزِيلُ أَثَرَ سَيْلِهِ غَمْرٌ وَغَامِرٌ، وَالْغَمْرَةُ مُعْظَمُ الْمَاءِ السَّاتِرَةُ لِمَقَرِّهَا وَجُعِلَ مَثَلًا لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تَغْمُرُ صَاحِبَهَا، وَقِيلَ: لِلشَّدَائِدِ غَمَرَاتٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالْمَعْنَى لَوْ تُبْصِرُ أَوْ تَعْلَمُ إِذْ يَكُونُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ أَوْ جِنْسُ الظَّالِمِينَ الشَّامِلُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، وَهِيَ سَكَرَاتُهُ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ شَدَائِدِ الْآلَامِ الْبَدَنِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا الَّتِي تُحِيطُ بِهِمْ كَمَا تُحِيطُ غَمَرَاتُ الْمَاءِ بِالْغَرْقَى {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} إِلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ، أَوْ بَاسِطُوهَا لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمُ الْخَبِيثَةِ بِالْعُنْفِ وَالضَّرْبِ، كَمَا قَالَ: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} 47: 27 وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ بَسْطُ الْيَدِ بِمَعْنَى الْإِيذَاءِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} 5: 11 فَإِنَّ أَكْثَرَ الْإِيذَاءِ الْعَمَلِيِّ يَكُونُ بِمَدِ الْيَدِ، فَإِنْ أُرِيدَ إِيذَاءٌ مُعَيَّنٌ ذُكِرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً فِي قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} 5: 28 الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ} حِكَايَةً لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ بَسْطِ أَيْدِيهِمْ لِتَعْذِيبِهِمْ أَوْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَمَعْنَاهُ أَخْرِجُوهَا مِمَّا هِيَ فِيهِ أَيْ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ- فَهُوَ أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَهَكُّمٍ، أَوْ أَخْرِجُوهَا مِنْ أَبْدَانِكُمْ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَبْضِ أَرْوَاحِ الظَّلَمَةِ بِفِعْلِ الْغَرِيمِ الْمُلِحِّ بِبَسْطِ يَدِهِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِيُعَنِّفَهُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا يُمْهِلُهُ وَيَقُولُ لَهُ: أَخْرِجْ مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعَةَ وَلَا أَرِيمُ (أَيْ لَا أَبْرَحُ مَكَانِي حَتَّى أَنْزِعَهُ مِنْ أَحْدَاقِكَ). وَوَافَقَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْكَلَامَ كِنَايَةً عَنِ الْعُنْفِ فِي السِّيَاقِ، وَالْإِلْحَاحِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الْإِرْهَاقِ، مِنْ غَيْرِ تَنْفِيسٍ وَلَا إِمْهَالٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ بَسْطُ يَدٍ وَلَا قَوْلُ لِسَانٍ. وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ جَائِزٌ لُغَةً لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، وَكَانَ يَكُونُ مُتَعَيِّنًا لَوْ كَانَ صُدُورُ مَا ذُكِرَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ مُتَعَذِّرًا، وَلَوْ كُشِفَ لِصَاحِبَيِ الْكَشَّافِ وَالْكَشْفِ الْحِجَابُ عَنْ تَمَثُّلِ الْمَلَائِكَةِ لِلْبَشَرِ بِمِثْلِ صُوَرِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ بِمِثْلِ كَلَامِهِمْ، لَرَأَيَا أَنَّهُمَا فِي مَنْدُوحَةٍ عَنِ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى التَّمْثِيلِ أَوِ الْكِنَايَةِ. وَقَدْ تَعَقَّبَ الْأَوَّلَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُمْكِنَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا مَعْدُولَ عَنْهَا.{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ تَتِمَّتُهُ هُنَا. وَالْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ الزَّمَنُ الْمَحْدُودُ بِصِفَةٍ أَوْ عَمَلٍ يَقَعُ فِيهِ كَأَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ فِي تَحْدِيدِ وَقَائِعِهَا وَحُرُوبِهَا. وَالْمُرَادُ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يُبْعَثُ النَّاسُ فِيهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَقْتُ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي بَسْطِ الْيَدِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ الْآخَرُ إِلَّا إِذَا صَحَّ جَعْلُ وَقْتِ الْمَوْتِ مَبْدَأَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْمَعْنَى: الْيَوْمَ تَلْقَوْنَ عَذَابَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ. لَا ظُلْمًا مِنَ الرَّحْمَنِ، بَلْ جَزَاءَ ظُلْمِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ مُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ كَقَوْلِ بَعْضِكُمْ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، وَزَعْمِ بَعْضٍ آخَرَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَجَحْدِ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ لِمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَاتِّخَاذِ أَقْوَامٍ لَهُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَاسْتِكْبَارِ آخَرِينَ عَمَّا نَصَّهُ وَأَنْزَلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، احْتِقَارًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِمَنْ كَرَّمَهُ اللهُ بِإِظْهَارِهَا عَلَى يَدِهِ وَلِسَانِهِ، وَخَشْيَةِ بَعْضٍ آخَرَ مِنْ تَعْيِيرِ عُشَرَائِهِ وَأَقْرَانِهِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ بِهَذَا مَا يَحِلُّ بِالظَّالِمِينَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَوْمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِمَّا ذُكِرَ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا وَعَذَابًا أَلِيمًا.{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا مَا يَقُولُهُ لِهَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ بَيَانِ مَا تَقُولُهُ لَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ كَمَا جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ، لَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا حَكَاهُ الرَّازِيُّ أَحَدَ وَجْهَيْنِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَقْوَى، غَافِلًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقْنَاكُمْ} وَلَا يُنَافِي هَذَا الْخِطَابُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2: 174 لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ كَلَامَ تَكْرِيمٍ وَرِضًا، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَضَبِ وَالْإِعْرَاضِ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا مُتَفَرِّقِينَ فَرْدًا بَعْدَ فَرْدٍ أَوْ وُحْدَانًا مُنْفَرِدِينَ عَنِ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَالْأَهْلِ وَالْإِخْوَانِ، وَالْأَنْصَارِ وَالْأَعْوَانِ، مُجَرَّدِينَ مِنَ الْخَوَلِ وَالْخَدَمِ وَالْأَمْلَاكِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُلْفًا، أَكَّدَ تَعَالَى الْخَبَرَ بِمَجِيئِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ وُقُوعِهِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ جُحُودِهِمْ إِيَّاهُ أَوِ اسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ، كَمَا ذَكَّرَهُمْ بِمُشَابَهَةِ بَعْثِهِمْ وَإِعَادَتِهِمْ بِبَدْءِ خَلْقِهِمْ، وَهُوَ الْمَثَلُ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَبِّهِمْ {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} أَعْطَيْنَاكُمْ، وَأَمَّا التَّخْوِيلُ إِعْطَاءُ الْخَوَلِ كَالْعَبِيدِ وَالنَّعَمِ، وَيُعَبَّرُ بِالتَّرْكِ وَرَاءَ الظَّهْرِ عَمَّا فَاتَ الْإِنْسَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، لِفَقْدِهِ إِيَّاهُ أَوْ بُعْدِهِ عَنْهُ، وَبِالتَّقْدِيمِ بَيْنَ الْأَيْدِي عَمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ مَا كَانَ شَاغِلًا لَهُمْ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا جَاءُوا بِهِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ، كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ اللهَ فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ يُمْكِنُهُمُ الِافْتِدَاءُ بِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، إِنْ صَحَّ قَوْلُ الرُّسُلِ: إِنَّ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِسَابًا وَجَزَاءً فِي حَيَاةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا كَانَ يُمْكِنُهُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَوْ آمَنُوا بِالرُّسُلِ وَأَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا. وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} فَإِنَّ الْأَدْيَانَ الْوَثَنِيَّةَ قَائِمَةٌ عَلَى قَاعِدَتِي الْفِدَاءِ وَالشَّفَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا، أَيْ وَمَا نُبْصِرُ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَخِيَارِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ- أَوْ تَمَاثِيلِهِمْ وَقُبُورِهِمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى، تَدْعُونَهُمْ لِيَشْفَعُوا لَكُمْ عِنْدَ اللهِ وَيُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، بِتَأْثِيرِهِمْ فِي إِرَادَتِهِ، وَحَمْلِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ فِي الْأَزَلِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمُ} الْبَيْنُ الصِّلَةُ أَوِ الْمَسَافَةُ الْحِسِّيَّةُ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةُ الْمُمْتَدَّةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، فَيُضَافُ دَائِمًا إِلَى الْمُثَنَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 49: 10 {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} 49: 9 أَوِ الْجَمْعِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 4: 114 وَلَا يُضَافُ إِلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إِلَّا إِذَا كُرِّرَ نَحْوَ {هَذَا فَرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} 18: 78 {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} 41: 5 وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْغَالِبِ ظَرْفًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ وَفِي الْقَلِيلِ اسْمًا، وَقَدْ قَرَأَهُ هَنَا عَاصِمٌ وَحَفْصٌ عَنْهُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ، أَيْ تَقَطَّعَ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ مِنْ صِلَاتِ النَّسَبِ وَالْمُلْكِ وَالْوَلَاءِ وَالْخُلَّةِ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ تَقَطَّعَ الْوَصْلُ بَيْنَكُمْ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ قَالُوا: أَيْ تَقْطَعُ وَصْلُكُمْ أَوْ تَوَاصُلُكُمْ {وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أَيْ وَغَابَ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مِنْ شَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ، وَتَقْرِيبِ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَوْهَامِ الْفِدَاءِ، إِذْ عَلِمْتُمْ بُطْلَانَ غُرُورِكُمْ بِهِ وَاعْتِمَادِكُمْ عَلَيْهِ، أَوْ ضَلَّ عَنْكُمُ الشُّفَعَاءُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَكُمْ، فَفِي الْكَلَامِ نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ، فَإِنَّ تَقَطُّعَ الْبَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى تَرْكِ مَا خُوِّلُوا، وَفَقْدَ الشَّفَاعَةِ أَوِ الشُّفَعَاءِ رَاجِعٌ إِلَى مَا بَعْدَهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ آمَالَهُمْ خَابَتْ فِي كُلِّ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ وَيَتَوَهَّمُونَ، وَقَدْ سَبَقَ لِهَذَا نَظِيرٌ فِي الْآيَاتِ (20- 24) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي هَذَا الْجُزْءِ. اهـ.
|