الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثُمَّ قال تعالى فِي بَيَانِ الْحَقِّ فِي الْمُعَامَلَةِ: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الْعَهْدُ: مَا تَلْتَزِمُ الْوَفَاءَ بِهِ لِغَيْرِكَ، فَإِذَا اتَّفَقَ اثْنَانِ عَلَى أَنْ يَقُومَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ بِشَيْءٍ مُقَابَلَةً وَمُجَازَاةً يُقَالُ: إِنَّهُمَا تَعَاهَدَا، وَيُقَالُ: عَاهَدَ فُلَانٌ فُلَانًا عَهْدًا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعُقُودُ الْمُؤَجَّلَةُ وَالْأَمَانَاتُ، فَمَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ أَقْرَضَكَ مَالًا إِلَى أَجَلٍ أَوْ بَاعَكَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَجَبَ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءُ حَقِّهِ إِلَيْهِ فِي وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُلْجِئَهُ إِلَى التَّقَاضِي وَالْإِلْحَاحِ فِي الطَّلَبِ، بِذَلِكَ تَقْتَضِي الْفِطْرَةُ وَتُحَتِّمُهُ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا مِثَالُ الْعَهْدِ مَعَ النَّاسِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلُوا الْعَهْدَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ بِالْمُعَاهَدِ، فَإِنْ كَانَ إسرائيليًّا وَجَبَ الْوَفَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ إسرائيليٌّ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ إسرائيليٍّ فَلَا عَهْدَ لَهُ وَلَا حَقَّ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْإِطْلَاقِ عَهْدُ اللهِ تعالى وَهُوَ مَا يَلْتَزِمُ الْمُؤْمِنُ الْوَفَاءَ لَهُ بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَعَهِدَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ بِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْيَهُودِ أيضا فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُوفُونَ بِهَذَا الْعَهْدِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ، وَلَوْ أَوْفَوْا بِهِ لَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، كَمَا أَوْصَاهُمُ اللهُ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.وَلَفْظُ {بَلَى} جَاءَ لِإِثْبَاتِ مَا نَفَوْهُ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَهُوَ يَقُولُ: بَلَى عَلَيْكُمْ سَبِيلٌ وَأَيُّ سَبِيلٍ؛ إِذْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ ذَكَرَ جَزَاءَ أَهْلِ الْوَفَاءِ وَالتَّقْوَى فَقَالَ: مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللهَ أَوِ النَّاسَ وَاتَّقَى الْإِخْلَافَ وَالْغَدْرَ وَالِاعْتِدَاءَ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّهُ فَيُعَامِلُهُ الْمَحْبُوبُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مَحَلَّ عِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ وُرُودَ الْجَوَابِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَفَادَنَا قَاعِدَةً عَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَهِيَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعُهُودِ وَاتِّقَاءَ الْإِخْلَافِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّهِ وَيَجْعَلُهُ أَهْلًا لِمَحَبَّتِهِ لَا كَوْنُهُ مِنْ شَعْبِ كَذَا، وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُعْلَمُ خَطَأُ الْيَهُودِ فِي زَعْمِهِمْ أنه لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَفِيهِ التَّعْرِيضُ بِأَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الرَّأْيِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ لِكُلِّ دِينٍ قَوِيمٍ.ثُمَّ بَيَّنَ تعالى جَزَاءَ أَهْلِ الْغَدْرِ وَالْإِخْلَافِ مَعَ بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْأَشْعَثَ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» قُلْتُ: لَا. فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: «أَحْلِفُ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ مَالِي، فَأَنْزَلَ اللهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ الْآيَةَ.وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنْ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً لَهُ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّزُولَ كَانَ بِالسَّبَبَيْنِ مَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ وَبَدَّلُوهُ وَحَلَفُوا أنه مِنْ عِنْدِ اللهِ.قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تُذْكَرُ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ فَيَظُنُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهَا وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، وَالْأَيْمَانُ فِيهَا جَمْعُ يَمِينٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْيَدِ الَّتِي تُقَابِلُ الشِّمَالَ ثُمَّ سَمَّى الْحَلِفَ وَالسَّقَمَ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَالِفَ فِي الْعَهْدِ يَضَعُ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ مَنْ يُعَاهِدُهُ عِنْدَ الْحَلِفِ لِتَأْكِيدِ الْعَهْدِ وَتَوْثِيقِهِ، حَتَّى إِنَّ اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَضَافَ الْعَهْدَ هَاهُنَا إِلَى اللهِ لِأَنَّهُ تعالى عَهِدَ إِلَى النَّاسِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ أَنْ يَلْتَزِمُوا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَاهَدُونَ وَيَتَعَاقَدُونَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا كَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَتَّقُوهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَعَهْدُ اللهِ يَشْمَلُ كُلَّ ذَلِكَ.وَلَمَّا كَانَ النَّاكِثُ لِلْعَهْدِ لَا يَنْكُثُ إِلَّا لِمَنْفَعَةٍ يَجْعَلُهَا بَدَلًا مِنْهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ وَمُبَادَلَةٌ، وَسَمَّى الْعِوَضَ ثَمَنًا قَلِيلًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَنْكُثُونَ الْعَهْدَ فِي الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا إِذَا أُوتُوا عَلَيْهِ أَجْرًا كَبِيرًا وَثَمَنًا كَثِيرًا لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤْخَذُ بَدَلًا مِنْ عَهْدِ اللهِ فَهُوَ قَلِيلٌ لاسيما إِذَا أُكِّدَ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْعُهُودَ إِذَا خُزِيَتِ اخْتَلَّ أَمْرُ الدِّينِ إِذِ الْوَفَاءُ آيَتُهُ الْبَيِّنَةُ، بَلْ مِحْوَرُهُ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ، وَفَسَدَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا إِذْ تَبْطُلُ ثِقَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَالثِّقَةُ رُوحُ الْمُعَامَلَاتِ وَسِلْكُ النِّظَامِ وَأَسَاسُ الْعُمْرَانِ؛ لِأَجْلِ هَذَا كَانَ الْوَعِيدُ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ- وَلَوْ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ- أَشَدَّ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَأَغْلَظَهُ، وَأَيُّ عِقَابٍ أَشَدُّ مِنْ عِقَابِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ فِيهَا، وَلَا يُكَلِّمُهُ اللهُ كَلَامَ إِعْتَابٍ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ عَطْفٍ وَرَحْمَةٍ، وَلَا يُزَكِّيهِ بِالثَّنَاءِ عَلَى عَمَلٍ لَهُ صَالِحٍ، أَوْ لَا يُطَهِّرُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ؟ لَمْ يَكْتَفِ تعالى بِحِرْمَانِ بَائِعِي الْعَهْدِ بِالثَّمَنِ مِنَ النَّعِيمِ وَبِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى بَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي دَرَكَةٍ مِنَ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ لَا تُرْجَى لَهُمْ فِيهَا رَحْمَةٌ وَلَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ تعالى كَلِمَةَ عَفْوٍ وَلَا مَغْفِرَةٍ، فَعَدَمُ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ وَمُنْتَهَى الْغَضَبِ الَّذِي لَا رَجَاءَ مَعَهُ وَلَا أَمَلَ.إِنَّ الزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرَ وَالرِّبَا وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَتَوَعَّدْ مُرْتَكِبِي هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ بِمِثْلِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ نَاكِثِي الْعُهُودِ وَخَائِنِي الْأَمَانَاتِ؛ لِأَنَّ مَفَاسِدَ النَّكْثِ وَالْخِيَانَةِ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهَا تِلْكَ الْجَرَائِمُ، فَمَا بَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ يَدَّعُونَ التَّدَيُّنَ وَيَتَّسِمُونَ بِسِمَةِ الإسلام وَهُمْ لَا يُبَالُونَ بِالْعُهُودِ وَلَا يَحْفَظُونَ الإيمان وَيَرَوْنَ ذَلِكَ صَغِيرًا مِنْ حَيْثُ يُكَبِّرُونَ أَمْرَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا. الإيمان بِاللهِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْخِيَانَةِ وَالنَّكْثِ فِي نَفْسٍ، وَقَدْ عَدَّ تعالى أَخَصَّ وَصْفٍ لِزُعَمَاءِ الْكُفْرِ يُبِيحُ قِتَالَهُمْ كَوْنَهُمْ لَا وَفَاءَ لَهُمْ بِالْعُهُودِ إِذْ قَالَ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [9: 12] وَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أنه مُسْلِمٌ- إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَقَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ.{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} بَيَانٌ لِحَالِ طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْفَرِيقِ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا حَوَالَيِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ. وَيَرْوُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَحَدِ زُعَمَائِهِمُ الْمُلِحِّينَ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِيذَائِهِ وَالْإِغْرَاءِ بِهِ، غَيَّرُوا التَّوْرَاةَ وَكَتَبُوا كِتَابًا بَدَّلُوا فِيهِ صِفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَتْ قُرَيْظَةُ مَا كَتَبُوهُ فَخَلَطُوهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَهُمْ وَجَعَلُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِقِرَاءَتِهِ؛ يُوهِمُونَ النَّاسَ أنه مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ يُنْبِئُ بِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِمْسَاكِهِمْ بِكِتَابِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الدِّينَ جِنْسِيَّةً وَصَارَ الِانْتِصَارُ لَهُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ إِلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِهِمْ، بَلْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَنْ كِتَابِهِمْ وَيُحَرِّفُونَهُ لِمُقَاوَمَةِ الْغَرِيبِ، وَيُعِدُّونَ ذَلِكَ انْتِصَارًا لَهُ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، فَقَدْ يَعُدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ وَالْمُتَعَصِّبِينَ لَهُ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِعَقَائِدِهِ وَأُصُولِهِ وَلَا بِفُرُوعِهِ إِلَّا مَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنِ الْعَامَّةِ، وَلَا هُوَ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ- وَإِنَّمَا يَعُدُّونَهُ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ عَادَى مَنْ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ بِسَبَبٍ سِيَاسِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالإسلام، بَلْ يُعِدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ مَنْ يَطْعَنُ فِي بَعْضِ الْمُصْلِحِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمُخَالَفَتِهِمْ مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَالْمُقَلِّدُونَ فِيمَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الإسلام لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوهُ لَا لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ جَاءَ بِهِ. وَقَدْ يُحَرِّفُونَ الْقُرْآنَ بِالتَّأْوِيلِ لِتَأْيِيدِ تَقَالِيدِهِمْ وَبِدَعِهِمْ أَوْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ اعْتِذَارًا بأنهمْ غَيْرُ مُطَالَبِينَ بِأَخْذِ دِينِهِمْ مِنْهُ بَلْ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ.أَمَّا لَيُّ اللِّسَانِ بِالْكِتَابِ فَهُوَ فَتْلُهُ لِلْكَلَامِ وَتَحْرِيفُهُ لَهُ بِصَرْفِهِ عَنْ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ وَقَدْ وَصَفَ تعالى بِهِ الْيَهُودَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [4: 46] فَهَذَا مِثَالٌ مِنْ لَيِّ اللِّسَانِ بِالْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكِتَابِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَضَعُوا كَلِمَةَ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكَانَ جُمْلَةِ لَا أُسْمِعْتَ مَكْرُوهًا الدِّعَائِيَّةِ الَّتِي تُقَالُ عَادَةً عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاعِ. وَكَلِمَةَ رَاعِنَا مَكَانَ كَلِمَةِ {انْظُرْنَا} الَّتِي يَقُولُهَا النَّاسُ لِمَنْ يَطْلُبُونَ مَعُونَتَهُ وَمُسَاعَدَتَهُ وَإِنَّمَا قَالُوا: غَيْرَ مُسْمَعٍ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِمَعْنَى لَا سَمِعْتَ وَقَالُوا: رَاعِنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عِبْرَانِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ كَانُوا يَتَسَابُّونَ بِهَا- كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ- وَمِثْلُ هَذَا مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُضْغِمُونَ كَلِمَةَ السَّلَامِ فَيُخْفُونَ اللَّامَ قَائِلِينَ السَّامُ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُفْصِحِينَ بِالْكَلِمَةِ، وَالسَّامُ: الْمَوْتُ، فَاللَّيُّ وَالتَّحْرِيفُ قَدْ كَأن يكون مِنْهُمْ أَحْيَانًا بِتَغْيِيرٍ فِي اللَّفْظِ وَأَحْيَانًا بِصَرْفِهِ إِلَى غَيْرِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَمِنْهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقَارِئُ شَيْئًا بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَقْرَأُ بِهَا الْكِتَابَ مِنْ جَرْسِ الصَّوْتِ وَطَرِيقَةِ النَّغَمِ وَإِظْهَارِ الْخُشُوعِ لِيَحْسَبَهُ السَّامِعُ مِنَ الْكِتَابِ فَيَقْبَلُهُ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّ أَحَدًا نَبَّهَ عَلَيْهِ. وَلَفْظُ اللَّيِّ يَتَنَاوَلُهُ وَهُوَ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُوهَمِينَ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِنَ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَأْتِيهِ مَازِحًا بِأَنْ يَقْرَأَ مِنْ كِتَابٍ مَا جَمُلًا بِالتَّجْوِيدِ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ لِيُوهِمَ الْجَاهِلَ أَوْ يَخْتَبِرَهُ. وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ أَوْهَمَ امْرَأَتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ عَلَى صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ مِثْلِهِ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا اللَّيُّ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ النَّاطِقُ لِلَّفْظِ مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ. مِثَالُ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا عِيسَى عليه السلام كَكَلِمَةِ ابْنِ اللهِ وَتَسْمِيَةِ اللهِ أَبًا لَهُ وَأَبًا لِلنَّاسِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا، وَلَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَنَقَلَهُ إِلَى الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ وَحْدَهُ أَيْ فَهُمْ يُفَسِّرُونَ لَفْظًا بِغَيْرِ مَعْنَاهُ الْمُرَادِ فِي الْكِتَابِ يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّ الْكِتَابَ جَاءَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ كَاذِبُونَ.أَكَّدَ الْخَبَرَ بِتَعَمُّدِهِمُ التَّحْرِيفَ وَسَجَّلَ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ عَلَيْهِمْ؛ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّهُمْ لَا يُعَرِّضُونَ وَلَا يُوَرُّونَ وَإِنَّمَا يُصَرِّحُونَ بِالْكَذِبِ تَصْرِيحًا لِفَرْطِ جَرَاءَتِهِمْ وَعَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللهِ تعالى لِأن الدين عِنْدَهُمْ رَسْمٌ ظَاهِرٌ وَجِنْسِيَّةٌ هِيَ مَصْدَرُ الْغُرُورِ؛ إِذْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ جَمِيعُ مَا يَجْتَرِمُونَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ، وَمِنْ سُلَالَةِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ، وَهَكَذَا حَالُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُونَ إِنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتْمًا، مَهْمَا كَانَتْ سِيرَتُهُ سَيِّئَةً وَعَمَلُهُ قَبِيحًا.فَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهُ الشَّفَاعَاتُ أَدْرَكَتْهُ الْمَغْفِرَةُ، وَيَعْنُونَ بِالْمُسْلِمِ مَنِ اتَّخَذَ الإسلام جِنْسًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ صَدَقَ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي وَصْفِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. اهـ.
|