الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال الرازي في مباحثه: فإن قيل فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور فنقول لأنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول وذلك مما خرج عنه يعني كان ذلك هو القسم الذي هو خير محض لا شر فيه قال: وبقي في الفعل قسم آخر وهو الذي يكون خيره غالبا على شره وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجودا قال وهذا الجواب لا يعجبني لأن لقائل أن يقول أن جميع هذه الخيرات والشرور إنما توجد باختيار الله سبحانه وإرادته فالاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجبا عن النار بل الله اختار خلقه عقيب مماسة النار وإذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإرادته فكان يمكنه أن يختار خلق الإحراق عندما يكون خيرا ولا يختار خلقه عندما يكون شرا ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه فاعلا بالذات لا بالقصد والاختيار ويرجع حاصل الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القدم والحدوث فانظر كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار ما شاء كان بمشيئته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته ألبتة فأقر على نفسه أنه لا خلاص له في تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ولا أوجد العالم بعد عدمه ولا يفنيه بعد إيجاده وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته فلم يكن مختارا مريدا للعالم وليس عنده إلا هذا القول أو قول الجبرية منكري الأسباب والحكم والتعليل أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل وأوجبوا رعاية مصالح شبهوا فيها الخالق بالمخلوق وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها وحرموا وحجروا عليه فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال لمنافاتها العقل والنقل والفطرة والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة: «أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى» ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنه القول الوسط الصواب لنا وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسول وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون وإليه منقادون وله ذاهبون.فصل: الأصل الأول: إثبات عموم علمه سبحانه وإحاطته بكل معلوم وأنه لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض بل قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا والخلاف في هذا الأصل مع فرقتين إحداهما أعداء الرسل كلهم وهم الذين ينفون علمه بالجزئيات وحاصل قولهم أنه لا يعلم موجودا البتة فإن كل موجود جزئي معين فإذا لم يعلم الجزئيات لم يكن عالما بشيء من العالم العلوي والسفلي والفرقة الثانية غلاة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم وحكموا بقتلهم الذين يقولون لا يعلم أعمال العباد حتى يعلموها ولم يعلمها قبل ذلك ولا كتبها ولا قدرها فضلا عن أن يكون شاءها وكونها وقول هؤلاء معلوم البطلان بالضرورة من أديان جميع المرسلين وكتب الله المنزلة وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم مملوءة بتكذيبهم وإبطال قولهم وإثبات عموم علمه الذي لا يشاركه فيه خلقه ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه ويعلمهم به وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه لا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها كما قال الخضر لموسى وهما أعلم أهل الأرض حينئذ ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر ويكفي أن ما يتكلم به من علمه لو قدر أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض كلها من أول الدهر إلى آخره أقلام يكتب به ما يتكلم به مما يعلمه لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم تنفذ كلماته فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته وغناهم إلى غناه وحكمتهم إلى حكمته وإذا كان أعلم الخلق به على الإطلاق يقول: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ويقول في دعاء الاستخارة: «فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب» ويقول سبحانه للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ويقول سبحانه لأعلم الأمم وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ويقول لأهل الكتاب: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا} وتقول رسله يوم القيامة حين يسألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا أنك أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} وهذا هو الأدب المطابق للحق في نفس الأمر فإن علومهم وعلوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه كما يضمحل ضوء السراج الضعيف في عين الشمس فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح وأعظم القحة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه ويقدح في حكمته ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه وسبق به علمه وأن يكون الأمر بخلاف ذلك فسبحان الله رب العالمين تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون فسبحان الله كلمة يحاشى الله بها عن كل ما يخالف كماله من سوء ونقص وعيب فهو المنزه التنزيه التام من كل وجه وبكل اعتبار عن كل نقص متوهم وإثبات عموم حمده وكماله وتمامه ينفي ذلك واتصافه بصفات الإلهية التي لا تكون لغيره وكونه أكبر من كل شيء في ذاته وأوصافه وأفعاله ينفي ذلك لمن رسخت معرفته في معنى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وسافر قلبه في منازلها وتلقى معانيها من مشكاة النبوة لا من مشكاة الفلسفة والكلام الباطل وآراء المتكلمين فهذا أصل يجب التمسك به في هذا المقام وأن يعلم أن عقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب سبحانه في أصغر مخلوقاته، الأصل الثاني: أنه سبحانه حي حقيقة وحياته أكمل الحياة وأتمها وهي حياة تستلزم جميع صفات الكمال ونفي أضدادها من جميع الوجوه ومن لوازم الحياة الفعل الاختياري فإن كل حي فعال وصدور الفعل عن الحي بحسب كمال حياته ونقصها وكل من كانت حياته أكمل من غيره كان فعله أقوى وأكمل وكذلك قدرته ولذلك كان الرب سبحانه على كل شيء قدير وهو فعال لما يريد وقد ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال عن نعيم بن حماد أنه قال: الحي هو الفعال وكل حي فعال فلا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل والشعور وإذا كانت الحياة مستلزمة للفعل وهو الأصل الثالث فالفعل الذي لا يعقل الناس سواه هو الفعل الاختياري الإرادي الحاصل بقدرة الفاعل وإرادته ومشيئته وما يصدر عن الذات من غير سفير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلا وإن كان أثرا من آثارها ومتولدا عنها كتأثير النار في الإحراق والماء في الإغراق والشمس في الحرارة فهذه آثار صادرة عن هذه الأجسام وليست أفعالا لها وإن كانت بقوى وطبائع جعلها الله فيها فالفعل والعمل من الحي العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته وكون الرب سبحانه حيا فاعلا مختارا مريدا مما اتفقت عليه الرسل والكتب ودل عليه العقل والفطرة وشهدت به الموجودات ناطقها وصامتها جمادها وحيوانها علويها وسفليها فمن أنكر فعل الرب الواقع بمشيئته واختياره وفعله فقد جحد ربه وفاطره وأنكر أن يكون للعامل رب، الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني والشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء فقد جعل سبحانه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه.بل الموجودات كلها أسباب ومسببات والشرع كله أسباب ومسببات والمقادير أسباب ومسببات والقدر جار عليها متصرف فيها فالأسباب محل الشرع والقدر والقرآن مملوء من إثبات الأسباب كقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}: {جَزَاءً وِفَاقًا}: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الله كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {ذَلِكَ بأنهمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ الله} وقوله: {ذَلِكَ بأنهمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} وقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا}: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وقوله: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقوله: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} الآية وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} وكل موضع رتب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببا له كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ الله} وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} وهذا أكثر من أن يستوعب وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء وهو أكثر من أن يستوعب كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وكل موضع رتب فيه الحكم على ما قبله بحرف أفاد التسبب وقد تقدم وكل موضع تقدم ذكرت فيه الباء تعليلا لما قبلها بما بعدها أفاد التسبب وكل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا أفاد التسبيب فإن العلة الغائية عله للعلة الفاعلية ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ويكفي شهادة الحس والعقل والفطر. اهـ.
.من فوائد تقي الدين السبكي: قَالَ رَحِمَهُ الله:قوله تعالى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْمِلْكِ فِي الْمَخْلُوقِ، بِخِلافِ مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَإِنَّمَا تَمْتَنِعُ التَّسْمِيَةُ بِمَلِكِ الأَمْلاكِ لأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالله تعالى، وَإِنَّمَا قُلْنَا أنه يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ لأَنَّ الأَصْلَ أنه إذَا ثَبَتَ الْمَعْنَى صَحَّ الاشْتِقَاقُ، فَإِنَّ تَحَقُّقَ النَّقْلِ الَّذِي قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ هَذَا الأَصْلِ مَانِعًا مِنْ الاسْتِدْلالِ وَالله أَعْلَمُ. انْتَهَى. اهـ..من فوائد الشعراوي: قال رحمه الله:{قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}.وساعة تسمع كلمة ملك، فلنا أن نعرف أن هناك كلمة هي مُلك بضم الميم، وكلمة أخرى هي مِلك بكسر الميم. إن كلمة مِلك تعني أن للإنسان ملكية بعض من الأشياء، كملكية إنسان لملابسه وكتبه وأشيائه، لكن الذي يملك مالك هذا الملك فهذا تسميه مُلك، فإذا كانت هذه الملكية في الأمر الظاهر لنا، فإننا نسميه عالم الملك، وهو العالم المُشاهد، وإذا كانت هذه الملكية في الأمر الخفي فإننا نسميه عالم الملكوت. إذن، فنحن هنا أمام مِلك، ومُلك وملكوت. ولذلك فعندما تجلى الحق سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم خليل الرحمن وكشف له ما خفي عن العيون وما ظهر، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].أي أن الله سبحانه وتعالى أراد لسيدنا إبراهيم أن يشاهد الملكوت في السماوات والأرض، أي كل الأشياء الظاهرة والخافية المخفية عن عيون العباد. وهكذا نرى مراحل الحيازة كالآتي: ملك، أي أن يملك الإنسان شيئا ما، وهذا نسميه مالكا للأشياء فهو مالك لاشيائه، ومالك لمتاعه أما الذي يملك الانسان الذي يملك الاشياء فإننا نسميه مُلك، أي أنه يملك من يملك الأشياء، والظاهرة في الأولى نسميها مِلْك فكل إنسان له ملكية بعض من الاشياء، وبعد ذلك تنحاز الى الأقل، اي ان تنسب ملكية أصحاب الأملاك إلى ملك واحد. فالملكية بالنسبة للإنسان تتلخص في أن يملك الإنسان شيئا فيصير مالكا، وإنسان آخر يوليه الله على جماعة من البشر فيصير مَلِكًا، هذا في المجال البشرى.أما في المجال الإلهي، فإننا نُصعد لنرى من يملك كل مالك وملك، أنه الله سبحانه وتعالى. ولا يظن أحد أن هناك إنسانا قد ملك شيئا؛ أو جاها في هذه الدنيا بغير مراد الله فيه، فكل إنسان يملك بما يريده الله له من رسالة، فإذا انحرف العباد، فلابد أن يولى الله عليهم ملكا ظالما، لماذا؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس.{وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].وكأن الحق سبحانه يقول: يأيها الخيِّر- بتشديد الياء- ضع قدما على قدم ولا تلوث يدك بأن تنتقم من الظالم، فسوف أضع ولاية ظالم أكبر على هذا الظالم الصغير، إنني أربأ بك أن تفعل ذلك، وسأنتقم لك، وأنت أيها الخيِّر منزه عندي عن ارتكاب المظالم، ولذلك نجد قول الحق: {وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].ونحن جميعا نعرف القول الشائع: الله يسلط الظالمين على الظالمين.ولو أن الذين ظلموا مُكِّن منهم من ظلموهم ما صنعوا فيهم ما يصنعه الظالمون في بعضهم بعضا. إن الحق يسلط الظالمين على الظالمين، وينجى أهل الخير من موقف الانتقام ممن ظلموهم.إذن فنحن في هذه الحياة نجد مالك، وملك وهناك فوق كل ذلك مالك الملك، ولم يقل الله: أنه ملك الملك؛ لأننا إذا دققنا جيدا في أمر الملكية فإننا لن نجد مالكا إلا الله.{قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أنه المتصرف في ملكه، وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد حكم في خلق الله بدون مراد الله، ولكن الناس حين تخرج عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم، ولذلك فالحق سبحانه يقول في حديثه القدسي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوى الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟».إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غضبا من الله. إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد. وإن ظلم الملك في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه، ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا الملك أو ذلك الحاكم مظلوما. أنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه سبحانه وتعالى مالك الملك وحده.إن الحق سبحانه يأمر رسوله الكريم: {قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إن كلمة {اللهم} وحدها فيها عجب من العجائب اللغوية، إن القرآن قد نزل باللسان العربي، وأمة العرب فصيحة اللسان والبيان والبلاغة، وشاء الحق أن يكون للفظ الجلالة الله خصوصية فريدة في اللغة العربية.
|