الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومعظم الناس لا تلتفت إلى الغاية الأصيلة؛ ولا يفهمونها حق الفهم، فيأتي أنصار الشر؛ ولا يعجبهم حمل نفوسهم على مرادات خالقهم. إن أفكار الشر تلح على صاحبها فيتمرد على التكليف الإيماني، وأفكار الشر تحاول الاقتراب بصاحبها من فعل الأمور التي حرمها التكليف. ولذلك ينقسم الناس لأنهم لم يحددوا هدفهم في الوجود.إن كل حركة في الوجود يمكننا أن نعرف أنها حركة إيمانية في صالح انسجام الإنسان مع الكون، أو هي حركة غير إيمانية تفسد انسجام الإنسان مع فطرته ومع الكون، فإذا كانت الحركة تصل بالإنسان إلى هدفه الإيماني. فستكون حركة طيبة وحسنة بالنسبة للمؤمن، وإذا كانت تبعده عن هدفه تكون حركة سيئة وباطلة، وهكذا نرى أن الهدف هو الذي يحدد الحركة.إن التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة له هدف بأن يتخرج في مهنة ما، وما دام ذلك هو هدفه فنحن نقيس حركة سلوكه، هل هي حركة تقربه إلى الهدف أن تبعد به عنه؟ فإن كان مجتهدا. فاجتهاده حركة تقرب له الهدف، وإن كان كسولا، خاملا فإنه يبتعد بنفسه عن الهدف. إذن يجب أن نحدد الهدف حتى نعرف هل يكون هذا العمل صالحا. أو غير صالح.وآفة الناس أنهم عندما يحددون أهدافهم يقعون في اعتبار ما ليس بالهدف هدفا وغاية. وما دام هناك من يعتبر غير الهدف هدفا فلابد من حدوث اضطراب وضلال، فالذي يعتبر أن الحياة هي الهدف، فهو يريد أن يحقق لنفسه أكبر قدر من اللذة فيها. أما الذي يعرف أن الهدف ليس هو الحياة، إنما الحياة مرحلة، نسأله.. ما الهدف إذن، فيقول: أنه لقاء الله والآخرة.هذا المؤمن سيكون عمله من أجل هذا الهدف. لكن الضال الذي يرى الدنيا وحدها هدفه ولا يؤمن بالجنة أو النار، هو غارق في ضلاله ويقبل على ما تشتهيه نفسه، ويبتعد عما يتعبه وإن كانت فيه سعادته.ولكن المؤمن يعرف أن الهدف ليس هو الدنيا، وأن الهدف في مجال آخر، لذلك يسعى في تطبيق التكاليف الإيمانية ليصل إلى الهدف، وهو الجنة. إذن ما يفسد سلوك الناس هو جهلهم بالهدف، وحين يوجد الهدف، فالإنسان يحاول أن يعرف العمل الذي يقربه من الهدف، فيفعله، فهذا هو الخير. أما الذي يبعده عن الهدف ويفعل عكس الموصل إليه فهذا هو الشر.وإذا كان الأمر كذلك والمسألة هي في تحديد الهدف يجب أن تعلم أن الناس يستقبلون الكثير من الأحداث بما يناقض معرفة الهدف، وما دام الهدف هو أن تذهب إلى الآخرة لتلقى الله فلماذا يغرق في الحزن إنسأن لان له حبيبا قد انتقل إلى رحمة الله؟هذا الإنسان يمكننا أن نسأله، لماذا تحزن وقد قصر الله عليه خطواته إلى الهدف؟ لابد أنك حزين على نفسك لأنك مستوحش له، ولأنك كنت تأنس به، أما حزنك من أجله هو، فلا حزن، لأنه اقترب من الهدف ووصل إليه.وفي حياتنا اليومية عندما يكون هدف جماعة أن تصل إلى الإسكندرية من القاهرة، نجد إنسانا ما يذهب إلى الإسكندرية ما شيا، لأنه لا يجد نقودا أو وسيلة توصله، وتجد آخر يذهب إليها راكبا حمارا، وثالثا يذهب إليها راكبا حصانا، ورابعا يصل إليها راكبا أتوبيسا، وخامسا يصل إليها بركوب الطائرة، وسادسا يصل إليها بصاروخ، وكل ما حدث هو أن كل واحد في هذه الجماعة قد اقترب من الهدف بالوسيلة التي توافرت له، وهكذا نجد إنسانا يذهب إلى الله ماشيا في سبعين عاما، وآخر يستدعيه الله فورا، فلماذا تحزن عليه؟إن لنا أن نحزن على الإنسان الذي لم يكن موفقا في خدمة الهدف، أما الموفق في خدمة الهدف فلنا أن نفرح له، ونقول: إن الله قد قصر عليه المسافة، وأغلبنا إن كان عنده ولد حبيب إلى قلبه وصغير ويفقده فهو يغرق في الحزن قائلا أنه لم ير الدنيا لهذا الإنسان نقول: يا رجل إن الله جعل ابنك يقفز الخطايا ويتجاوزها وأخذه إلى الغاية، فما الذي يحزنك؟ إن علينا أن نحسن استقبال ما يقضي به الله في خلقه، ونعرف أنه حكيم وأنه رحيم وأن كل شيء منه يجب ألا نفهمه خارجا عن الحكمة.وبعد تلك الآيات الكريمة التي تحدث فيها الحق عن مريم وعيسى عليه السلام.. قال الحق سبحانه: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله}. اهـ.
.التفسير المأثور: قال السيوطي:{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}.أخرج ابن جرير عن وهب. أن عيسى كان على شريعة موسى عليهما السلام، وكان يسبت، ويستقبل بيت المقدس، وقال لبني إسرائيل: أني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة الا {ولأُحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم} وأضع عنكم من الآصار.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: {ولأحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم} قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل، والثروب، فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرمت عليهم الشحوم، فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير ما لا صيصية له، وفي أشياء أخر رحمها عليهم وشدد عليهم فيها. فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. مثله.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وجئتكم بآية من ربكم} قال: ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها وما أعطاه ربه. اهـ..التفسير الإشاري: قال الألوسي:ومن باب الإشارة في الآيات: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين} نهى عن موالاة المؤمنين الكافرين لعدم المناسبة بينهم في الحقيقة ولفرق بين الظلمة والنور والظل والحرور، والولاية تقتضي المناسبة ومتى لم تحصل كانت الولاية عن محض رياء أو نفاق والله تعالى لا يحب المرائين ولا المنافقين، ومن هنا نهى أهل الله تعالى المريدين عن موالاة المنكرين لأن ظلمة الإنكار والعياذ بالله تعالى تحاكي ظلمة الكفر وربما تراكمت فسدت طريق الإيمان، ومن يفعل ذلك فليس من ولاية الله تعالى في شيء معتد به إذ ليس فيه نورية صافية يناسب بها الحضرة الإلهية {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} فحينئذٍ تجوز الموالاة ظاهرًا، وهذا بالنسبة للضعفاء وأما من قوي يقينه فلا يخشى إلا الله تعالى: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} أي يدعوكم إلى التوحيد العياني لئلا يكون خوفكم من غيره {وإلى الله المصير} [آل عمران: 28] فلا تحذروا إلا إياه، والأكثرون على أن هذا خطاب للخواص العارفين إذ لا يحذر نفسه من لا يعرفه وقد حذر من دونهم بقوله سبحانه: {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] قال إبراهيم الخواص: وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا في صُدُورِكُمْ} من الموالاة {أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} لأنه مع كل نفس وخطرة {وَيَعْلَمُ مَا فِى} سموات الأرواح وأرض الأجسام {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} [آل عمران: 29] فلا يشغله شأن عن شأن ولا يقيده مظهر عن مظهر {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء} لأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر في صحائف النفوس السماوية إلا أنه لاشتغاله بالشواغل الحسية والإدراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النقوش ولا يبصر هاتيك السطور فإذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به قلم الاستعداد جرى فإذا وجد سوءًا {تَوَدُّ} نفسه وتتمنى {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا} لتعذبها به {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} كرره تأكيدًا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه {والله رَءوفٌ بالعباد} [آل عمران: 30] أي بسائرهم فلهذا حذرهم، أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى} لأني سيد المحبين {يُحْبِبْكُمُ الله} وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق، وروح الروح بلذة العشق، واستغراق الحواس في بحر الأنس، وطهارة النفس بمياه القدس، ورؤية الحبيب بعين الكل، وغمض عين الكل عن الكونين، وطيران السر في غيب الغيب، وتخلق المحل بخلق المحبوب وهذا أصل المحبة وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات، والمراقبات، واستنشاق نفحات الصفات، والتواضع والذل في الحركات والسكنات.وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب، ولذا قالوا: لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه. وقد يقال: المحبة ثلاثة أقسام، القسم الأول: محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها وهو حب يتغير وهو لمتابعي الأعمال الذين يطلبون أجرًا على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب: القسم الثاني: محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إجلالًا وإعظامًا ولأنه أهل لذلك، وإلى هذا القسم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه»، وقالت رابعة رحمها الله تعالى: وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد القسم الثالث: محبة خواص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكامن: «كنت كنزًا مخفيًا» وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكرأن لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، وفي مثل ذلك قيل: ويكفي في شرح الحب لفظه فإنه حاء وباء والحاء من حروف الحلق، والباء شفوية، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له: حب، وشرح ذاك يطول، وهذه محبة العبد لربه، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضا، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث الرحمة فكأنه قيل لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه قيل لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال، وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم: اتبعوني ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه، وهناك يرتفع البون من البين، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي معاصيكم التي سلفت منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه وجودًا لا يفنى كما قال: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث {والله غَفُورٌ} يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم {رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجودًا حقانية خيرًا من ذلك {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} فإن المريد يلزمه متابعة المراد {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي فإن أعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 32] لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} [آل عمران: 33] الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] فأخص المراتب هو المحبة، وإليه يشير قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} [البقرة: 253] ثم الخلة، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء، فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له، ونوحًا الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه، واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي تبع نبيًا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه، ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات، وآله القوى الروحانية، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب {إِذْ قَالَتِ امرأت عمران رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] عن رق النفس مخلصًا في عبادتك عن الميل إلى السوي {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} قال الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا} حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة {حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} لطهارة سره، وشبيه الشيء منجذب إليه {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية.وأخرج ابن أبي حاتم من بعض الطرق عن مجاهد أنه قال: رزقًا أي علمًا، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس {إِذْ قَالَتِ امرأت عمران} وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل {إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} وهو غلام القلب {مُحَرَّرًا} ليس في رق شيء من المخلوقات {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إني وَضَعْتُهَا أنثى} وهي نفس أيضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة، والجنس يلد الجنس {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار {وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وهي العابدة {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} [آل عمران: 36] وهوالشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقيًا حسنًا غير مشوب بالعوائق والعلائق {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} الاستعداد {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت مقدس القلب {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت {قَالَ إني لَكِ هذا} الرزق العظيم قالت: هو مفاض من عند الله منزه عن الحمل بيد الأفكار {إِنَّ الله} الجامع لصفات الجمال والجلال {يَرْزُقُ مَن يَشَاء} ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] فسبحانه من إله وجواد كريم وهاب. اهـ.
|