الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام
أي كاد يتقطع.ب- وقال آخرون: إنّ (لا) هنا هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت الألف نظير الألف في قول الشاعر: أعوذ بالله بمن العقراب ويكون معنى الآية: لأَقْسِمٌ.وهذا الرأي ضعيف لأن النحاة يقولون: إذا كان الفعل مستقبلاً في حيّز القسم وجب اتصال نون التوكيد به وحذفها ضعيف جداً تقول مثلاً لأفعلنّ ومثله قوله تعالى: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] ولا تقول: لأفعلُ.ج- وقال آخرون: هي (للنفي) وهو نفي لمحذوف هو ما كان يقوله الكفار: إن القرآن سحر، أو شعر، أو كهانة، ويكون حاصل لمعنى: لا صحة لما يقولون، أُقْسمُ بمواقع النجوم، ويكون الأمر فيه نفياً لكلام سابق، وابتداءً بكلام مستأنف.وهذا الرأي ضعيف أيضاً لأن النحاة يقولون: إنّ اسم (لا) وخبرها لا يصح حذفهما إلاّ إذا كانا في جواب سؤال، ثم إنه في مثل هذه الحالة يتعين العطف بالواو كما يقال: هل شفي فلانٌ من مرضه؟ فيقال: لا وشفاه الله... إلخ.د- واختار الفخر الرازي رأياً آخر خلاصته: أنّ (لا) نافية باقية على معناها، وأنّ في الكلام (مجازاً تركيبياً) وخلاصة المعنى أن نقول: لا حاجة إلى القسم لأنّ الأمر أظهر وأوضح من أن يقسم عليه، وهذا الرأي جميل لأنه لا يراد به نفي القسم حقيقة بل الإشارة إلى أنه من الجلاء والوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم.الحكم الثاني: ما المراد بالكتاب المكنون في الآية الكريمة؟اختلف الفسرون في المراد بالكتاب المكنون.فقيل: هو (اللوح المحفوظ) ومعنى أنه مكنون أي أنه مستور عن الأعين، لا يطّلع عليه إلا بعض الملائكة، كجبريل وميكائيل عليهما السلام.وقيل إن الكتاب: لا يراد به اللوح المحفوظ، وإنما يراد به القرآن الكريم (المصحف) فهذا القرآن العظيم كما أنه محفوظ في الصدور، كذلك هو مسجل في السطور كما قال تعالى: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} [عبس: 13] وعلى هذا التفسير يكون معنى: {مَّكْنُونٍ} أي أنه محفوظ من التبديل والتغيير، ويكون على حدّ قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].الحكم الثالث: ما المراد من قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون}؟اختلف المفسرون في الضمير في هذه الآية الكريمة وهو قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ} هل هو راجع إلى القرآن العظيم؟ أم إلى الكتاب الذي هو على رأي بعضهم (اللوح المحفوظ) فإذا أعيد الضمير على القرآن الكريم يكون المراد من قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ} أي لا يمسّ هذا القرآن إلاّ طاهر من الحدثين: الأصغر والأكبر. ويكون النفي على معنى أنه لا ينبغي أن يمسه كما في قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3].ويرى البعض أنّ (لا) ناهية وليست نافية، والضمة التي فيه للإتباع لا للإعراب، والذين قالوا إن المراد باللفظ هو اللوح المحفوظ فسروا المطهّرين بالملائكة واستدلوا بقوله تعالى: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13- 16] فقالوا هذه الآية تشبه تلك فالمراد بها إذاً الملائكة.الحكم الرابع: ما هو حكم مسّ المصحف الشريف؟القرآن الكريم كتاب الله المقدس يجب تعظيمه واحترامه، ومن تعظيمه وإجلاله ألاّ يمسه إلاّ طاهر، ومسألة عدم جواز مسّ المصحف للمحدث أمر يكاد يجمع عليه الفقهاء، ومن أجازه من الفقهاء فإنما أجازه لضرورة (التعلم والتعليم) فالمحدث والجنب، والحائض، والنفساء، كلّ هؤلاء يحرم عليهم مس المصحف لعدم الطهارة.رأي ابن تيمية رحمه الله: استدل ابن تيمية على الحكم الشرعي من وجه لطيف فقال: إنّ الآية تدل على الحكم من باب (الإشارة) فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أنَّ الصحف المطهَّرة في السماء لا يمسُها إلا المطهّرون فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألاّ يمسّها إلا طاهرانتهى.أقول: هذا هو الحق الذي ينبغي التعويل عليه، وهو ما اتفق عليه الفقهاء من حرمة مسّ المصحف الشريف بدون طهارة.تنبيه هام:قلنا إن مسَّ المصحف لغير المتطهر حرام، وهذا الحكم لا اعتراض عليه، إنما الاختلاف بين الفقهاء هل هو مستنبط من الآية الكريمة؟ أم مأخوذ من دليل آخر؟فيرى بعض الفقهاء أن الحكم الشرعي بحرمة مسّ القرآن مأخوذ من نفس هذه الآية الكريمة، لأنه (خبر) يقصد به (النهي) فكأنه تعالى يقول: لا تمسّوه إلاّ إذا كنتم على طهارة.وقال آخرون الحكم ثبت من السنة لا من الآية الكريمة وقد ذكروا بعض الوجوه التي يُرجَّح بها هذا الرأي منها:أ- إنّ الآيات هاهنا مكية، ومعلوم أن القرآن في مكة كانت عنايته موجهة إلى أصول الدين لا إلى فروعه.ب- قالوا الآية خبر وتأويلكم لها يخرجها عن (الخبر) إلى (الإنشاء) الذي يراد به النهي، والأصلُ أن يحمل اللفظ على الحقيقة.ج- قالوا إنّ لفظ: {المطهّرون} يشير إلى ما قلنا وهو الذي تكون طهارته ذاتية وهم (الملائكة) وأما المتطهرين فهم الذين تكون طهارتهم بعملهم نظراً لقوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} [البقرة: 222] فلو أراد الله سبحانه الإخبار عن وجوب الطهارة لقال: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون}!!.والخلاصة: فإن السنة والآثار تنصّ على وجوب الطهارة لمسّ القرآن فقد ثبت فيما رواه ابن حبان وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى أهل اليمن وجاء فيه: «وألاّ يمسّ القرآن إلا طاهرٌ».وبهذا قال الجمهور من الفقهاء منهم: (مالك وأبو حنيفة والشافعي) رحمهم الله وقد كان كثير من الصحابة يأمرون أولادهم بالوضوء لمس المصحف، وقصة عمر معروفة وفي هذا القدر كفاية وغُنيةٌ عن التطويل.الحكم الخامس: ما هي الحكمة من القسم؟جرت العادة عند العرب أن يستعملوا القسم عند إرادة توكيد الكلام، والقرآنُ الكريم نزل بلغة العرب، وقد كانت آياته الكريمة تحوي أنواعاً من القسم وضرورياً من التفنّن البديع في توكيد الكلام، وليس المراد من القسم إثبات الدعوى، فالدعاوى لها ما يثبتها من الأدلة القطعية التي ثبتت عن طريق الحجة والبرهان.ثمّ إنّ المخاطب أحد رجلين: إمَّا مؤمن بالقرآن، أو مكذب به، فالمؤمن لا يحتاج إلى قسم فهو مصدِّقٌ بما أخبر عنه الله تعالى بدون يمين، والمكذّب الذي لم تغنه الآيات والنّذُر لن يصدّق بمجرد القسم بعد أن لم يؤثر فيه الدليل، فثبت أنّ المراد بالقسم إنما هو توكيد الكلام ليس إلاّ ولفتُ النظر إلى أهمية الموضوع، وأهمية الأمر، فحين يقسم الله تعالى بشيء من الأشياء تتوجه النفس إلى سرّ هذا القسم بهذا المخلوق متسائلة ما سرّه؟ وما معناه؟ ولم أقسم به دون غيره؟ وحينئذٍ تبحث عن الحكمة والسرِّ في ذلك القسم!!الحكم السادس: ما هي أنواع القسم المذكورة في القرآن الكريم؟ورد القسم في القرآن الكريم على أنواع عديدة، وضروب شتى، إمَّا من ناحية القسم نفسه، أو من ناحية المقسم عليه.1- فجاء القسم بالذات العلية مثل قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92].2- وجاء القسم بأشياء من خلقه سبحانه مثل: {والتين والزيتون} [التين: 1] {والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] {والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1- 2].3- وجاء القسم بالقرآن الكريم مثل: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] {حم* والكتاب المبين} [الزخرف: 1- 2] {ق والقرآن المجيد} [ق: 1].4- وجاء أيضاً على الشكل الذي معنا في الآيات الكريمة بلا النافية وفعل القسم مثل قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس * الجوار الكنس} [التكوير: 15- 16] وقوله: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} [القيامة: 1] وقوله: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] هذا من ناحية القسم.أما من ناحية المقسم عليه فإمّا أن يكون.1- أصول الإيمان كوحدانية الله سبحانه مثل قوله تعالى: {والصافات صَفَّا... إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} [الصافات: 1- 4].2- أو يكون المراد إثبات أن القرآن حق مثل الآية التي معنا: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم... إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}.3- أو يكون المراد إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى: {يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 1- 3].4- أو يكون المراد نفي صفة ذميمة أتهم بها المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم مثل قوله: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1- 2].الحكم السابع: هل يجوز القسم بغير الله سبحانه؟أجمع العلماء على حرمة القسم بغير الله سبحانه، أو صفةٍ من صفاته تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر» هذا بالنسبة للخلق، أما بالنسبة للخالق فله أن يقسم بما شاء من خلقه، لأن في القسم بالشيء تنبيهاً إلى عظمته وأهميته، والله سبحانه وتعالى قد أقسم بكثير من الآيات كما مر معنا تنبيهاً إلى شرفها وما حوت من إبداع وإتقان ليكون ذلك دليلاً على عظمة خالقها جل وعلا.وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر».
|